3شتاء 1931-1932

4 0 0
                                    


الصورة التي استحضرها ذهني كانت صورة معمل الكيميائي زجاجات بلورية رائعة مرتبطة بعضها عبر منضوية من القنوات الكريستالية الرقيقة ولا ترينا هذه الزجاجات الشفافة غير سوائل ملونة كالاحجار الكريمة أو غائمة أو محض دخان تعطي للرؤية الظاهرية متعه جمالية مجردة محاليل فتاكة لا يعرفها سوى الكيميائي نفسه أحس أنني أريد مختبرآ مميزآ للروح_للنفس لبيتي و حياتي _التي لم تبدأ بعد تجاربها الحيوية الخصبة ولا تخريبها ولا تفجراتها
تستهويني أشكال الزجاجات و ألوان الكيميائي...
أجمع و أقتني الزجاجات و كلما كانت أشكالها أقرب إلى زجاجات الكيميائي أحببتها لبلاغة أشكالها
عندما رأيت (هنري)يسير باتجاه الباب حيث كنت أقف أغمضت عيني للحظة كي أراه بما يدعونه العين الداخلية كان هنري دافئآ حميمًا مسترخيآ مرحآ و طبيعيآ ومر وسط الحشد كأي شخص مجهول
كان ممشوقآ و نحيفآ متوسط الطول وبدا مثل راهب بوذي راهب له بشرة وردية بصلعته الصغيرة المحاطة بشعر فضي لامع و فمه الشهواني المتلئ عيناه الزرقاوان كانتا باردتين و يقظتين لكن فمه كان عاطفيآ و عرضة للغواية ضحكته معدية و صوته لطيف حميم كاصوات الزنوج كان مختلفًا جدآ إبتداء بقسوته و عنفه و حيوية كتابته و شخصياته الروائية وهزلياته (الرابلية)
ومبالغاته و ابتسامته الوقحه عند زاويتي عينيه ونبرت صرته اللينة هنري رجل يمتلك حياة ثملة دونمًا حاجة للشرب رجل يعوم في خفة من ابتداعه الشخصي
انفجر هنري بالضحك في منتصف الحوار الجاد بين ريتشارد وأخي (خواكين)استغرب ريتشارد للامر..
قال هنري:أنا لا اضحك منك يا ريتشارد ولكنني لا اتمالك نفسي لانني أساسأ غير معني بمن هو على صواب إنني سعيد جدآ إنني أشعر بالسعادة هذه اللحظة بكل ما يحيطني من ألوان و بهذا النار المتوهجة في المدفأة و العشاء الفاخر_النبيذ اللحظه بأكملها في غاية الروعة
كان يتحدث بيطء كآنما يتلذذ بكلماته إنه يحتل اللحظة الراهنة بكاملها ويبدو مهذبآ و عطوفآ
أعترف هنري بانه جاء إلى بيتي لان ريتشارد وعده بعشاء فاخر لكنه يود لان أن يتعرف إلى البيت كله و يتحدث إلى كل فرد يقيم فيه ويعرف عمل كل شخص و يطرح السؤال إثر السؤال بنوع من قسوة غير مقصودة...
تحدث (هنري ميللر)إلى خواكين عن الموسيقى و مؤلفاته الموسيقية و حفلاته و أتجه ليصافح والدتي ثم تجول في الحديقة وعاد ليتفحص الكتب كان شخصآ مسكونآ بالفضول
بعد كل هذا جلس قرب النافذة وبدأ يتحدث عن نفسه...
أمضيت الليلة البارحة في دار السينما لم يكن لدي مكان أذهب إليه كان ريتشارد مع صديقته شاهدت الفيلم ثلاث مراتٍ لان الممثلة ذكرتني بزوجتي (جون) استرخيت في المقعد وستسلمت للنوم في هذه السينما لا ينظفون القاعة إلا صباح اليوم التالي أبصرت مسؤولة التنظيف
لم تقل شيئًا ما سمعت منها غير تأمة صغيرة بعدها سمحت لي بالخروج هل جربتم البقاء في دار السينما عندما تخلو من الناس؟الافلام تشبه جرعة من الافيون و حال خروجك إلى الشارع تتعرض لصدمة و يغدو من العسير عليك الافاقة من حلمك و لكن عندما تبقى في السينما فآنك لن تستيقظ أبدًا ويواصل الحلم عمله فيك لقد استغرقني لبرهة ثم بدات أرى الصور تتتابع على الشاشة ولم أعد أستطيع التمييز بين الحلم و الفيلم رأيت زوجتي جون وهي تعلن لي ذات صباح في نيويورك:
(ما دمت تحلم بالذهاب إلى باريس لتصبح كاتبآ حسنآ لدي بعض المال لكن لن أرافقك ...سوف ألحق بك فيما بعد)
كانت قصة الفيلم عن امراة تكذب وتواصل الكذب و تتحول أكذوبتها إلى لعنة تحل بها ثم تتحول الى حقيقة كانت امراة تتوق لان تصبح ممثلة فلفقت قصة مفادها أن لها علاقة حب مع أحد اشهر الممثلين وأذاعت الحكاية فانتشرت على نطاق واسع حين روتها بأسلوب مثير مبالغ فيها فتصدى لها (الممثل)وواجهها بالامر فشرحت له السبب الذي اضطرها لاقتراف فعلتها ووصفت له المشاهد المفترضة التي حدثت بينهما بأسلوب ساحر جعله يبقى معها و يحقق لها كل ما كانت قد لفقته من أحداث كما لو أنها كانت نبوءة
زوجتي (جون)كانت تحرجني بالطريقة ذاتها لقد بقيت في نيويورك لتكسب النقود لرحلتي لا تسالوني من أين تأتي (جون)بالنقود كنت احاول دومًا اكتشاف الحقيقة فادخل في قصص معقدة و مكائن و مقايضات عجائبية فأكف عن محاولاتي في التقصي لان كل ما تقوم به يحيط جو من الشعوذة و الحيل
قالت لي :ألست تريد السفر إلى باريس هنري ؟ ساتدبر الامر وقد حلن موعد استحقاق الايجار سوف اتحدث الى صاحب البناية...
ذكرتني جون بالغجريات اللائي شاهدتهن في جنوب فرنسا فما أن يصلن البيت حتى يخلعن تنوراتهن بسرعة ويخرجن دجاجة أو اثنتين كن قد سرقنها كنت اشعر أن قصص (جون)محض أكاذيب و لكن لا برهان لدي....كنت ادرك أن قدراتها في المساومة غير متأتية من الاشياء أو المهارات أو العبقرية الشخصية بل من منح نفسها للاخرين
كانت تقول لي :عليك أن تنصرف للكتابة و تدع الاشياء الاخرى لي...
لكنني لم أستطيع الكتابة :فقد أمضيت الوقت كله في محاولة فك اللغز
كيف تستطيع (جون)تدبر كل هذه المشكلات دون أن تذهب لاداء عمل ما مثل سائر الناس؟
لم تكن قط تجيب عن الاسئلة المباشرة كنت أدور حولها و أفعل ذلك عندما يتملكني الغضب و عندما تقرا اي كتاب أعرف مقدمآ أو بعد حين أن أحدهم قد قدمه لها وأن انطباعاتها عنه مستعارة من ذلك الذي قدم لها الكتاب
وفي أحيان أخرى تعلن للناس أنها هي التي دفعتني لقراءة(دوستويفسكي)و(مارسيل بروست)
أو لماذا أتحدث عنها بصيغة الغائب وهي التي ستصل بعد أسابيع قليلة...
يشبه (هنري ميللر)مخلوقآ أسطوريآ وتموج كتابته باللهب كتابة متدفقه هيولية مضطرية خداعة خطيرة:(عصرنا بحاجة إلى العنف )
أستمتع بسلطة كتابته بقبح هذه الكتابة و تخريبها و جسارتها وتدفقها.
هذا المزيج الغريب من عبادة الحياة وهذه الحميآ و التلذذ الشغوف بكل شيء الطاقة و الخصب الضحك و العواصف المدمرة التي تربكني كل شيء يهب عاصفآ الرياء الرعب الشفقة الزيف إنها ثقه الموهبة بنفسها..

نهاية البارت الثالث

أناييس نن 𖡋Where stories live. Discover now