أتعلم ما هو الخذلان ؟!
أنه طعنة غادرة .. دامية .. تنفذ إلى عمق روحك فتدميه وتترك أثرًا لا يمحى أبدًا .
أتعلم ما أقسى من الخذلان ، هو تظاهرك بأن لم يحدث شيئًا .. التظاهر أنك بخير .. ابتسامتك التي ترسمها بإتقان .. نظرات عينيك الوامضة ببريق لم يخرج من عمق روحك ، بل هو نابض من عمق جرحك .
ركنت رأسها إلى زجاج النافذة القريبة منها ،تريح عقلها المضطرب من الصباح رغمًا عنها بعد هذه المكالمة التي أطلقت صافرة إنذار داخل عقلها فأيقظته من حالة السبات الجبري الذي دفعته إليها وهي تقفز بنفسها .. روحها .. قلبها إلى دوامته دون أن تفكر مرتين ، لقد تسرعت كعادتها وخسرت –أيضًا – كعادتها !!
اختنق حلقها وهي تشعر بسنون دموعها تخز مآقيها تحثها على النزول وهي تذكرها بأن الخسارة هذه المرة ليست كبقية الخسارات التي مُنيت بها طوال حياتها ، راقبت غروب الشمس من خلف نظارتها الشمسية السوداء والتي تخفي عيناها اللامعة بدموع متحجرة تجاهد ألا تسقط فهي توقفت عن البكاء منذ زمن بعيد ، ولكن اليوم تشعر بأنها ترغب في البكاء بشدة لعلها تخفف من وطأة حزنها الذي يخنق روحها كمدًا .
حركت رأسها وهي تحاول أن تجد وضيعة ملائمة لوضع رأسها فلا تشعر بعنقها مدلى .. محني .. مثقل بالكثير من الأفكار التي ترتع في عقلها والكثير من الذكريات التي تستعيدها فتخبرها كم كانت مخطئة في قرارها الأخير والذي كلفها هذه المرة أغلى ما تملك " قلبها " !!
بكل مرة كانت تتعلق بحلمها في أن تحصل على من يحبها .. يهتم بها .. يرعاها .. يجعلها جزء من عالمه .. يمنحها الاستقرار .. البيت .. العائلة التي تحتاجها ، تفيق في آخر الأمر أنها لم تكن سوى مرحلة يلجأ إليها ليخطو من فوقها فيستكمل حياته وهي تفقد جزء من روحها
بأول الأمر ارتبطت بزميل دراستها .. عملها .. ابن جيران جدتها ، كان وجوده ثابتًا مستقرًا في حياتها ، أقنعها بأنه يحبها وأنها جُل أحلامه ، تقدم للزواج منها في أبغض مرحلة من حياتها وهي موت جدتها ، من تربت على يديها ، كبرت بين أحضانها في ظل غياب والديها ، وراقبتها وهي تفقد روحها ببطء إلى أن أسلمتها إلى خالقها ، لتشعر بفراغ شديد يحاوطها وظلام كبير يكتنفها في ظل وحدة نهشت روحها ، لتجده هو بالجوار على الدوام حينما تحتاجه فسلمت عقلها إليه دون أن تفكر .. دون أن تسأل .. دون أن تفهم .
وحينما فهمت تنازلت عن جزء كبير من أموالها لتتخلص منه ، من تجبره عليها ، جرحه لأنوثتها واهانته المستمرة لها ، ورغم خسارتها لنصف ارثها الا أنها لم تندم يومًا على الأموال التي ربحت أضعافها حينما استعادت حياتها وأصبحت من أشهر جراحي تخصصها رغم صغر سنها رغم جراحها التي أخفتها بمهارة وخفة وهي تكسب نفسها هالة قوية تُعمي بصر من يراها ، استغلت جمالها الذي طالما انتقصه بسبب برودها معه لتفتن الجميع دون أن تقرب أحد منها ، كانت كالفاكهة الطازجة مغرية .. مغوية ولكنها محرمة لا يقو أي أحد على نيلها ،
إلى أن قابلته فارس في زمن انقرضت به الخيول ، كانت تسمع عنه قبل أن تراه ، يصفون مهارته الجراحية الفذة وأخلاقه العالية ، كانوا يتندرون أمامها كثيرا عن الطبيب الذي لا يرفع نظره لأي شيء وجل اهتمامه بعمله ودراسته فقط ، لم يصادفها أبدًا أن التقته خلال بعثته التي قضاها بلندن رغم كل ما سمعته عنه وبعد أن ساقها فضولها وانجذبت لرؤيته وهو يُجري أكثر من عملية جراحية رغم اختصاصهما المختلفين إلا أنه جذب انتباهها فبحثت عن العمليات الجراحية الناجحة التي شارك بها أو أداها بمفرده وصُورت له ، إلى أن سقطت أسيرة هالته القوية حينما قابلته للمرة الأولى بالقاهرة ، بل هو السبب الرئيسي لمكوثها في القاهرة وقبولها لعرض العمل الذي عرضه عليها أحمد الجمال وكانت سترفضه قبل أن تراه ، لقد بذلت من كرامتها الكثير لتقترب منه ، تنازلت عن الكثير لأجل فقط أن تقترب منه ويضمها إلى كنفه ، يحتويها ويغدق عليها الأمان الذي ينشره من حوله ، لم تحبه هي موقنة من ذلك ولكنها أحبت رجولته .. شهامته .. إخلاصه لزوجته رغم كل ما حدث بينهم ورغم كل سعيها من خلفه ، ولكنها توقفت في لحظة فارقه قبل أن تخسر ما تبقى من كرامتها توقفت ورحلت دون أن ترمش بجفنيها ودون أن تنال خسارة كانت ستقضي عليها ، لتقع بغباء منقطع النظير في حفرة ذهبت إليها بكامل إرادتها وهي تثق في حكم قلبها هذه المرة وكم كان حكم قلبها خاطئًا !!
***
يدور من حول نفسه كليث حبيس ، لا يعلم عنها شيء ، يهاتفها دون رد وذهب إلى مكان عملها فأخبروه أنها لم تأتي اليوم ،إذًا أين ذهبت لقد خرجت صباحًا ذاهبه إلى عملها ، ولكنها لم تذهب ، لا تجيب اتصالاته رغم أن هاتفها يرن ، عقله يكاد يذهب من كثرة قلقه عليها وخاصة وأنها غادرت فجأة ، فهو لم ينتبه لانصرافها إلا حينما صُفِع الباب من خلفها ، فاكتشف أنه شرد عنها فلم يمنحها وداعًا لائقا كما المعتاد بينهما، ليقضي نهاره متجهمًا .. ضائقًا .. غاضبًا من نفسه ومن يسرا التي استولت على ذهنه كاملًا بحديثها الذي أربكه وكأنها شعرت بأنه تزوج فتستجوبه بحديثها لتتركه محتارًا بين أن يخبرها أو يصمت فلا يأتي بسيرة منار معها حتى لا تلح عليه بأسئلتها فتجبره أن يثرثر عنها ، فهو لا يريد أن يثرثر عنها .. لا يريد أن يتحدث مع نفسه عليها .. لا يمنح لقلبه حق الهجوم عليه أو الدفاع لها ، بل يترك نفسه يسير مع تيار بحرها الذي اكتشف أنه جرفه معه فأصبح بنصف البحر لا يقو على العودة ولا يستطيع الإبحار .
ساكن معها .. عاجز أمامها .. مقيد بها فيستكين إلى الصمت في حرمها .. الغرق في مصب نهرها .. والارتواء من نبعها ، وينفي عقله الذي يذكره بأنه كل رشفه تذوقها من شهدها أسرته لها اكثر حتى لم يعد قو على الفكاك أو الهرب .
" أيريد الهرب ؟! " هتف بها عقله فيدور من حول نفسه مرة أخرى وينظر من خلال نافذة بيتها إلى المدينة اللامعة أسفلهم بأنوار خافتة ، ليشرد بصره بالأخرى التي جذبته لها بأول الأمر ، فهي تشبها إلى حدٍ ما، ليس شكليًا فمنار تفوق يسرا جمالًا يكفي توهج شعرها الناري الذي يشعل به النيران فتنظر إليه بنظرات عيناها المضيئة فتذيب أوصاله فيغرق بها ، أنها تؤثر به بشكل لم تفعله إحداهن من قبل وخاصة في وجود يسرا من حوله دومًا ، ولكن الآن لا يشعر بطيف يسرا يخيم على روحه كالسابق بل حينما تحضر هي بناريتها تختفي كل أشباحه الماضية ويشعر بأن روحه تتجلى في أفقها هائمًا .
رجف كفيه وعقله ينبض بتساؤله " هل تخلص من شبح يسرا ؟! هل حررته هي منها ؟! هل يحبها ؟!! "
ليعبس برفض ظهر فوق ملامحه ويهز رأسه بنفي تمسك به في تجبر مارسه على نفسه وهو يتمتم مغمض عينيه : لا .. لم أحبها ولن أفعل .
__ مرحبًا .
انتفض على صوتها ليدور فوق عقبيه ليجدها أمامه مباشرة فيهتف بعفوية : أنتِ هنا ؟! متى حضرتِ .
ابتسمت بطريقة لم تعجبه لتهمس : الآن ، هل كنت تنتظرني ؟!
عبس بحيرة وهو يرمقها بنظرات ثاقبة يبحث عن الاختلاف الذي يشعره منها ، يحس بأن هناك حاجزًا ما يفصلهما عن بعض ، ينظر إليها فلا يجد إلا تلك النارية التي قابلها يوم ولادة رحيم فيتأملها مليًا وهو يبحث عن رفيقته وزوجته التي كانت معه على مدار الأشهر الماضية فلا يجدها ، زم شفتيه بغضب بدأ يتنامى إليه ليسألها بصوت حاد قليلًا : أين كنت ؟!
هزت كتفيها بلا مبالاة : في العمل .
أطبق فكيه بقوة ليسألها بجدية : حقًا ؟!
__ أين سأكون برأيك ؟!
ألقتها ونظرت إليه من فوق كتفها فومضت عيناه بتفكير وعقله يحلل كذبها عليه لتتشتت نظراته وهو يتابعها تتخلص من ملابسها قطعه .. قطعه كما تفعل فيتشتت تركيزه وعقله يشرد في جسدها البض الذي ينكشف أمام عينيه رويدًا .. رويدًا ، لتختفي في لحظة من أمامه وهي تدلف إلى غرفة نومهما فيتبعها دون وعي منه يراقبها بصمت فتتسع عيناه على تلك الكدمة الحمراء الصغيرة التي تزين أسفل عنقها من الخلف فيشعر بروحه تختنق والغضب يشعل تلافيف عقله ، تحرك سريعًا إليها ليقبض على مرفقها يديرها إليه بحدة ويسألها بغضب مكبوت : ما هذا ؟!
نظرت إليه بحيرة : علام تسأل ؟!
أدارها ليضعها أمام المرآة بزاوية مائلة ويضغط بسبابته على كدمتها وهو يسأل بجنون تملكه : هذا .
كتمت تأوهها لترفع رأسها وتهم بإجابته لتلتقط نظراته المليئة بظنه فتهمهم بسخرية : ماذا تظن أنت ؟!
اندلعت نيران غيرته في حدقتيه ليضغط على مرفقها بقوة ويضغط أسنانه ببعضهما : أين كنتِ ؟! أخبريني ولا تكذبِ .
لمعت دموع حبيسة فعينيها جراء ضغطته القوية لتجاوبه بسخرية رسمت بملامحها : ألا تصدقني ؟!
__ لا . أخرجها قوية .. حادة .. صادقة ، وعيناه تمتلئ بشك قتل شعورها به لتدفعه بعيدًا عنها وهي تتخلص من قبضته وتهتف : إذًا لا تفعل ، فليس لدي إجابة أخرى .
اشتعل عقله بجنون ليصرخ : أين كنتِ ؟! أخبريني من الأفضل لكِ .
صاحت بدورها : لقد أخبرتك وأنت لا تصدقني .
__ لأنكِ لم تكونين بالمشفى ، لقد بحثت عنك وأخبروني أنكِ لم تذهبين .
أجفلت من زعقته الحادة لتجيبه بقنوط : فظننت بي السوء وشككت بأخلاقي بسبب شيء صغير رأيته ولم تصدق أني بالفعل كنت بالعمل .
التمعت عيناه بوميض نيران غيرته لتبتسم باستهزاء وهي ترفع رأسها لأعلى : ليس لدي إجابة أخرى ولن أشرح وأبرر لك شيء ، إذ لا يعجبك ما أخبرك به ، الباب خلفك غادر ولا تعد .
لهث بعنف وهو ينظر إليها بنظرات حادة فتبتسم بسخرية وهي تقترب منه بخطوات مغوية تعمدتها لتهمهم باستفزاز تقصدته : هل تشك بي ؟! هل تلك البقعة الحمراء أثارت جنونك وخُيلت إليك أن هناك من لامسني غيرك .
اربد وجهه غضبًا ليصرخ بقوة ويضع كفه فوق فمها وهو يهدر : اخرسي .
تخلصت من كفه لتهتف به في حدة : لن أخرس أجبني هل ظننت أن هناك من لامسني ؟!
قبض على أعلى ذراعيها وهزها بقوة : اصمتي يا منار ، اخرسي لا أريد سماع صوتك .
دفعته بعنف : وأنا لا أطيق رؤياك ، اخرج من هنا ولا تعد .
سحبت نفسًا عميقًا لتهتف بحدة : طلقني ، فأنا لم أعد أريدك .
أخفض عينيه ليرفع رأسه لها يرمقها من بين رموشه ليبتسم باستهزاء جلي وهو يقترب بخطوات بطيئة وحينما أوشك على الالتصاق بها فابتعدت إلى الخلف لترتطم بالفراش من خلفها فتقف ثابتة تتحداه بعينيه فيهمهم وهو يكتنفها بذراعيه رغمًا عنها : ومن أخبركِ أن الأمر عائدًا لك
تملصت منه لتهتف بلهاث رافض : ابتعد عني .
أطبق فكيه ليومض غضبه بعينيه وهو يدفعها للخلف يطوق جسدها ويشل حركتها بوجوده ليهمس جانب أذنها: لم أطلب موافقتك .
ارتعدت بخوف لتهمس بيأس تملك منها : لا تفعل .
وضع رأسه على رأسها اعتقل مقلتيها بنظراته فيهمس بوعيد نبض بعينيه : بل سأفعل لتعلمي جيدًا أنه ليس برغبتك إنما برغبتي أنا ، لتتيقني أنكِ ملكي .. خاصتي .. زوجتي أنا .
انتفضت بين ذراعيه وهي تحاول أن تقاومه ليوهن مقاومتها وهو ينالها جبرا فتئن ودموع عينيها تسقط أخيرًا لتكوي فؤادها بدلًا من أن تريحها كما تخيلت !!
أنت تقرأ
نوفيلا .. عشقت قدري
Romanceيسألونك عن العشق فأجبهم بأنه شوق .. لهفه .. شغف .. وامتلاك روح لآخر رمق وأخبرهم بأنه تنهدات .. آهات .. بكاء .. وصراخ يصل إلى عويل . وصفه بأنه يجمع بين كل نقيضين هو حزن وفرح .. سعادة وضجر .. شوق وغضب .. لهفه ونزق .. قرب وبعد هو البين بين كل شيئين...