كان الليل مغطى بضباب كثيف، يبتلع الوهج الخافت لأضواء الشوارع ويلقي بظلال مخيفة على الشوارع المرصوفة بالحصى. كان الهواء مثقلاً بالترقب، وكأن الجو ذاته يعج بالرغبات الخفية, لقد كانت تلك الليلة التي تولد فيها الأسرار وتشتعل فيها المشاعر .
في قلب المدينة كان يوجد قصر مهيب، تلوح واجهته الحجرية مثل حارس صامت في الظلام محاط بالسرية ومغلف بجاذبية الخطر. الليلة،في الداخل، الهواء مثقل برائحة السجائر باهظة الثمن و الويسكي القديم، ممزوجًا بأنغام موسيقى الجاز الخافتة المنبعثة من مكبرات الصوت المخفية، كان القصر ينبض بالحياة بأصوات الموسيقى والضحك، حيث اجتمع الضيوف من جميع مناحي البلاد لحضور الحفلة التنكرية السنوية .
تمتلئ الغرفة بمزيج انتقائي من الشخصيات: زعماء و منفذيهم المخلصين، و نساء يرتدين الحرير والماس، وشخصيات من العالم السفلي يتبادلون المحادثات الهامسة في الزوايا المظلمة. يشتعل الجو بتيار خفي من التوتر، حيث يتم تشكيل التحالفات وتغلي المنافسات تحت السطح، و في إحدى الزوايا، تتجمع مجموعة من أسماك القرش حول طاولة، وترتفع أصواتهم في لعبة بوكر عالية المخاطر .
ومن بين حشد المتنكرين، برزت شخصية واحدة مثل الظل في الليل. كان اسمه فريديانو بولفاريو ، رجل يكتنفه الغموض والشائعات. طويل القامة ومهيمن، وعيناه مظلمة مثل منتصف الليل، كان يتحرك بين الحشد برشاقة مفترسة جذبت الانتباه إليه
ولكن لم يكن مظهره وحده هو ما يميز فريديانو، بل حقيقة أنه فريديانو نفسه، لقد كانت هالة الخطر حوله كجلد ثان، وهالة القوة و السيطرة التي بدت وكأنها تشع من كيانه ذاته. لقد كان رجلاً يستحوذ على الاهتمام، ويثير الخوف والرغبة بنفس القدر، أما من يعرف من يكون فريديانو فلن يرمش له جفن بحضوره
و رغم القناع على وجهه إلا أن الحضور قد استطاعوا التعرف عليه، لما لا و هالته المميزة و الجذابة تسبقه بخطوات. و مع أولى خطواته داخل الحفلة في القصر فجأة رفع الحضور كؤوسهم عاليا و انحنت رؤوسهم بخفة و تزامن. منظر محبب له حيث الكؤوس المتشابهة الممتلئة بالشامبانيا لكن هاه التحية لم تكن له وحده ،بابتسامة خافتة و ايماءة خفضت الكؤوس و تقدم يشق طريقه ليقاطعه بعض الرجال المتنكرين يبدون اعجابهم بزينة القصر و تحفه الفنية و ردهته ذات الإطلالة المميزة و كان يسايرهم الحديث بينما بعض الأعين عليه لكن ما لفت انتباهه كانت نظرات تخترق ظهره كرصاصة فحاول تجاهلها لكن تأثيرها كان أكبر من مجرد سهو
لم يأبه حين قاطع الجماعة الملتقى حول فلم يكن يبالي بحديثهم حتى، التفت فسقطت نظرته على أعين زرقاء حادة من الجهة الأخرى للقاعة لكنها سرعان ما اختفت بين ضباب الأجساد المتراقصة. أعين زرقاء حادة، تخطى الأجساد المتشابكة بحثا عنها. وقف بين الحشد يحاول رصدها و ها هي ذا الأعين المحيطية الحادة بقناع أبيض برزت عبره أعينها بقوة، قناعها يخفي ملامحها ولكنه غير قادر على اخفاء هالة الثقة و القوة فكما كانت هالة الخطر حوله كجلد ثان كانت هالة الثقة و المكر حولها كجلد ثان، و كلما اقترب أكثر وضحت رأيته أكثر. شعر فحمي أسود تقف مع جماعة من نساء و أزواجهن لكنها لم تأبه بهم بل ضلت عينيها مثبتتان على خاصته، شفتاها محددتان بأحمر داكن يتسع في ابتسامة مستمتعة تزداد اتساع مع كل خطوة يخطوها. لا يبعد عنها الآن إلا بضعة خطوات فاتضح عقدها الألماسي اللامع و أقراطها الصارخة رغم بساطتها فستان أبيض حريري طويل
أنت تقرأ
خلف الظلال
Romanceلقد حكموا المافيا بقبضة من حديد. لم يجرؤ أحد على عبورهم، لم يستطع أحد أن يضاهيهم. لكنهم كانوا منافسين في الوقت ذاته، تنافسوا على الأرض و المال و السلطة، لقد أرادوا تدمير بعضهم البعض. لقد كرهوا بعضهم البعض بشغف شديد بقدر انجذابهم لبعضهم البعض. لكن كر...