عَليل

102 15 96
                                    


عُلَّت يده قبل أن يروي هذه القصص، وذهب بعقله الخبل والجنون، وتُرك رجلًا بلا جثة، هامد على كرسٍ، يأرجحه كما تهدهد أغصان الشجر الأوكار المهجورة، كما جرت العادة حين كانت تعج تلك الأوكار بصغار الطيور.

فتهب بعقله أحيانًا أفكار، لسخف موقفه الحالي، تقع من رأسه حين يهتز الكرسي للخلف، وحين يهتز الكرسي للأمام، يغلق عينيه كما لو أنه هو سيقع.

لكن الغريب هو أن الكرسي ليس هزازًا، بل كانت تلك تراكمات رحلة بحرية طويلة قطعها ولم يستطع إكمالها، كان الأفق بعيدًا جدًا حتى ظن بأنه يتوجه لإحدى السماوات العليا، يتوقاها كما لا يتوقى رجل الفضاء فضائه.

لا أعلم يقينًا إن كان خائفًا من إكتشاف قارات جديدة، أم أنه كان خائفًا من أن يرسو على إحدى القارات المكتشفة بالفعل. أحيانًا يستوي العلم والجهل. لا تقنعني بأن من يعلمون أنهم يبعثون، لا يتوقون يوم البعث، كما يتوقاه من لا يعلم مصيره بعد الموت.

لا تقنعني أن رجل الدين ينام على سريره مرتاحًا، بينما ينام الآثم في سريره قلقًا، كلاهما يخافان، معلومًا أو مجهولًا، ولكل مخاوفه.

دوار البحر لا يترك العقل بانتهاء الرحلة، فما بالك برحلة غير منتهية.

لكنني أعلم بأن هذا الرجل هو واعٍ لا محال، فهو لا ينفك عن التحرش بي كلما سنحت له الفرصة، لهذا أبقى على مسافة متر منه ومن كرسيه الخشبي، المصنوع من شجرة البلوط، قص علي حكاية هذا الكرسي سبع مرات، ست مرات منها قمت بتغطية أذني وعيني كي أتخطى الجزء الذي قطع به يده بالخطأ بينما يحاول تثبيت قطعة خشب وبدلها بعد حين بخطاف.

لدى الرجال العجائر أغرب الحوادث والقصص لحكايتها دائمًا، ومعظمها دموي لسببٍ ما، قام بإشباعي من تلك القصص. أحيانًا أتساءل إن كانت الحياة صعبة على الجميع، وإن كنتُ من هذا الجميع، هل تلك الحوادث المؤسفة ستحدث لي كما حدثت له؟ أظن بأنني، ولو كذبًا، سأود أن أؤمن بأنني لستُ من تلك المجموعة من البشر.. تلك المجموعة التي نقرأ عنها في الأخبار.

أود أن أؤمن بأنني إن التزمت بعادات معينة سأتمكن من تلافي الأخطار، تبقى المهمة الصعبة هو أن أتلافى نفسي.

وبمناسبة الخطاف فهو قام بتمزيق ثلاثة قمصان لي - عمدًا- به، كي يتسنى له رؤية جسدي.

إن لم يقتلني هذا العجوز، وعشت حتى أمتلك أطفالًا سأخبرهم بألَّا يقبلوا وظائف غريبة بمقابل مادي ضخم.

حين يطلب منك أحدهم الإعتناء برجل عجوز مقابل ثروة، اسأله لِم؟ استفسر عن هيئة العجوز.. لا تكن مغفَّلًا مثلي. لا تقف متراخيًا أمام فوهة القدر، منتظرًا في كل مرة أن تكون السبطانة فارغة. لا تلعب الروليت الروسية عاريًا على طاولة من الرجال السكارى.

كان يحكي لي كلما تراءى له أن الوقت مناسب قصة من تلك القصص، وكما يبدو لي أن الوقت المناسب بالنسبة له لا يكون أبدًا وقتًا مناسباً بالنسبة للمتعارف عند البشر. فكم من مرة رفض أن يأكل لأن الجزء المشوق من القصة على مشارفه، وسهر بي ليالٍ طويلة ينكزني كلما سهوت ليخبرني قصصًا عشوائية، إحداهن هي قصة شجرة البلوط ويده المقطوعة.

مفارقةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن