1

164 18 36
                                    

*******

إشعاع الموت! على البشر أن يدفعوا لقاء امتلاك الأشياء، هذا ما علمني إياه ذاك القابع في الظلام اللا متناهي في الشر.

كانت الإضاءة خافتة، الظلام ابتلع شبحي الرجلين، الضوء الأصفر الخافت لمصباح التنغستين و الرجل الممدد أمام أعينهما، كان الشبح الأسود يهز الرجل الآخر.

'اقتلعه ... هيا ...'

الرجل الآخر لا يتحرك، عيناه متسعتان برعب.

'...هيا ... انتزعه'

مد يده المرتجفة، غرقت في ذاك السائل اللزج البغيض. لون الضوء يميل إلى الأحمر، اللوحة المأساوية لعينيه و قلبه على وشك الاكتمال، الرعب الحقيقي الخالص.

﴿... و غدوت أنا بأكملي من الذهب. أشعر أنني عاجز كالوثن.
أنظر من جديد في الأرض إلى ذلك الشيء المتوهج، ما أثقله! لا أستطيع حمل هذه اللفافة المضيئة و لا أي شخص آخر على ما يبدو.

كلنا معا لا نستطيع حملها، بيدي أعظم كنز في العالم أجمع، كنز لأجله وقعت حروب و به أبيدت دول و شعوب.

أنا منبهر فعلا بهذه الحقيقة، هذا لا يخطر على بال بشر.

إنني أنظر إليه كل يوم، إنه حلم أي هاوٍ في العالم بل هو أبعد من أن يحلم به أي أحد على ما أظن، و لكنني يوسف نُجَيْم .. أنا لست أي أحد﴾

- اطمئن، هذه قضية عادلة لا بد أن تنتصر و ستلتقي آدم من جديد، لأجل ذلك اليوم سأحارب أطماع أولئك الأثرياء الجشعين.

'سأحمي حقولنا و آمالنا، سأحمي زهورنا من دنس أرواحهم، سأحمي أحاسيسنا الغالية و أعود مجددا إلى حضن الأمان'

'هذا الهدوء ... إنه يوحي بالسلام، و السلام لا يأتي إلا مع الموت'


أتعرف ما أكرهه؟ طبعا لا تعرف لذا سأخبرك، لكن سأخبرك أولا بما أحب، أحب القصص الخيالية الشيقة و ما أكرهه هو أن يفسد أحد ما علي ذلك، و قد يكون هذا عن طريق جعل رواية ما متشابكة إلى درجة الجنون، تعقيد الأحداث المريع هذا يجعلني أفكر و أستهلك رصيد الجلايكوجين الذي أخزنه في جسدي كلما أكلت -أفعل هذا كثيرا على فكرة- ، و أنا ككثير من المسنين رغم أنني لم أبلغ العشرين بعد لا أحب أن يجبرني أحد ما على إنفاق ما لدي لذا لن أتصرف بلؤم و سأصف مسرح الأحداث لأن محور الحكاية ليس الماضي بل الحاضر، و لهذا فسأوضح أولا تاريخ هذا المكان قبل أن أحكي عن الحاضر الطويل. لكنني لن أحكي، بل أحدهم سيحكي، شخص مهم سيحكي، و سيخبركم أخيرا عن نفسه، إنه كتوم و ملول و له من الرذائل ما قد يورث كراهيته في قلوبكم ... الكسل، لذا لا تقاطعوه لئلا يترككم في منتصف الحكاية لبراثن الفصول فتمزق ما تبقى منكم، فمجرد وصولكم إلى هنا دليل على حاجتكم إلى عقار مصنوع من فطر عجيب ينبت في غابة خيالية يخلصكم من داء الفضول الخبيث الذي تنتشر خلاياه بينكم بسرعة مخيفة. و أنا لست على استعداد لتقديم أي من الحلين فدوري هنا هو تأمل الملحمة بينما أتثاءب، طالما كنت هكذا. أرغمناه بالقوة على أن يأتي و يجيب، و ما كان ذاك سهلا. و الآن لنستمع، و كما قلت فجميل أن تتحلوا بالصمت و لا تغرقوني بوابل من الأسئلة التي سيجيب عنها على الأغلب ضيفنا الغريب.
«منذ زمن بعيد جداً، زمن لا تعرفون عنه شيئا، زمن غابر ولّى منذ القِدم، كان البشر كعادتهم يعيشون في سلسلة حروب لا تنتهي، هذا دأبهم منذ وُجِدوا على الأرض يتساوون فيتنافسون، فينتصر من كان هذا قدره، و لكن أعين الحاسدين تظل له دائما بالمرصاد. أكره البشر كما أكره الموت لأنهم لا يتعلمون من أخطائهم أبدا و لأنهم تافهون و جاهلون رغم أنهم كُرِّموا بالعقل. البشر عالقون منذ الأزل في هذه الحلقة المستبدة، و بالنسبة إلى المخلوقات ذات الإرادة فلا مخلوق يستبد بهم إلا بملئ إرادتهم، في كل جيل، في كل زمان و كل مكان، بأسماء جديدة، و ملامح جديدة، و تقنيات من مستوى جديد، و لكن على المنوال نفسه، نفس البداية و نفس النهاية، الأهداف نفسها، النتائج نفسها، العبر نفسها، لكن العيون مغمضة إلا قليلا. و من كرم الله أنهم لم يمتلكوا قط أسلحة ذات قيمة وقتئذ لأن الكون كان سيفنى في ليلة واحدة لو امتلك هؤلاء الحمقى زمام الأمور، و كان سلاحهم في ذلك الوقت مقتصرا على السيوف و الرماح بعد الانهيار العظيم لأنهم كانوا مجرد كائنات جاهلة عصبية، تعسة و غبية. لكن ... في يوم من الأيام و في إحدى الممالك أذِن الله أن يتغير كل شيء دون أن يتغير المصير المحدق بعامتهم و جهالهم، من السماء جاءت هي ليتغير وجه الدنيا إلى الأبد، كانت فائقة الجمال، و لعل هذا ما جعلها اسما على مسمى "جميلة"، أو لنقل : أول من إمتلك المعارف المحرمة في تاريخ الأرض الحديث. جعلت المعارف من جميلة الشابة سيدة على كل العالم، فلم يكن هناك بشري يقدر على مواجهة امرأة امتلكت "السر المحرم" بعد عصور التكتم.
أشرقت الشمس يوما لكنه لم يكن كباقي الأيام ... على الأقل برأي جميلة. كانت قوية، كانت نابغة، امتلكت أسرارا ثقيلة و كنزا لا يسعه صندوق في العالم، لكنها ظلت أنثى ... كائنا مرهف الحس، ما الذي تغير؟ الفتاة الشابة صارت عروسا.
كانت الضوضاء من القصر يومها مهولة، و كذلك الأبخرة و الدخان المتصاعد الممتزج بروائح الطعام المختلفة. لن تحتاج إلى خبرة في الطبخ لتميز الحلو من المالح من الحامض، فقط قلب فنان و خيالا واسعا - و معدة وحش-
تخيل رائحة سمك مشوي و سجق و مرق أرانب و دجاجا محمرا و أكباد بقر مشوية و معكرونة بالجبن و صلصة سلطة بالخل و أرغفة خبز و فطائر بالمربى و كعكا بالشوكولاطة و تحليات بالفواكه و عصائر طازجة. كانت رائحة المعكرونة هي الأقوى، ظننت وقتها أنها موجهة إلى سائر الشعب. تخيل امتزاج روائح ما سبق بالأمواج المالحة التي تروي الرمال بعنف و رونق و بشذى الحديقة الإمبراطورية التي ترعاها الإمبراطورة الأم بيديها ذاتهما. إذا تراجعت قليلا إلى الوراء فستصطدم برائحة خبز أقل جودة -إذا اصطدمت بعربة بائع متجول فالخبز البارد لا تنبعث رائحته من بعيد- و سمك سردين قديم طحنه الصياد الفنان خلال إخراجه من الماء و ربما قبل ذلك حتى -و أخذ يبرر فنه هذا للبسطاء- فصار له علاوة على هذه الرائحة منظر يسد النفس، مع الكثير جدا من غبار الطريق و دخان السجائر و عرق العمال و المواشي. وقتئذ انتظرت انتهاء الصباح بفارغ الصبر، أتدري لماذا؟ لينتهي الجوع أخيرا بمعكرونة جبن، و في المساء سأحظى بكثير من الخبز الذي تمتلئ به مزبلة القصر نادرا - في المناسبات-
"كان يوما غريبا حينما جاءت، كان يوما مميزا حين التقت مراد، يوم مجدها لن يُنسى أبدا، أما يوم رحيلها فلا يدري أحد عنه شيئا"
و بعد ذلك بعشرة سنوات تقريبا، كان بإمكانك رؤية المرأة نفسها تقبض بكل يد على قبضة طفلين أحدهما مالك و الأخرى منال. و بينما يمشي الثلاثة في هدوء هبط طائر أبيض من السماء على فرع شجرة قريبة، كان مالك قد تملص من يديها و انقض على الشجرة متسلقا، فقط حينها ضيقت جميلة عينيها الهادئتين على الدوام بوجل غريب، و ما إن فتحت فمها لتنهر الصبي حتى كان الأخير يعتلي فرعا شامخا من الشجرة و بين الطائر و يديه قدر قفزة واحدة ذكية. في تلك اللحظة ميزت عينا جميلة اللون الذي لن تخطئاه أبدا حتى لو اقتلعتا من محجريهما: اللون العسلي المائل إلى الأخضر الفستقي الذي يميز جذع الشجرة، و حينما دققت في تفاصيل الجذع المستقيم سقط قلبها في بطنها، و قبل أن تصرخ في مالك أدركت أن منال كذلك قد أفلتت يدها ببراعة و أخذت تصوب الحصى على الطائر بذكاء  فطار باتجاه سبابة مالك الممدودة و لامست مخالبه عقلة إصبع الفتى.

أضواء الموت (هام جدا: الرواية قيد التعديل)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن