الفصل 1 : العالم الخفي ، حياة الصبي الكفيف

48 5 5
                                    


في الغرفة ذات الإضاءة الخافتة ، أمام مدخل مسكنه المتواضع، جلس الفتى الأعمى هناك وحيدًا على كرسيه الخشبي ، محدقًا أمامه بعينيه الجوفاء الخالية من أي ضوء حقيقي.

كانت الشمس قد بدأت هبوطها ملقيةً أشعتها الأخيرة ، وقد تناثر حينها مشهد من الألوان بدرجات اللون الأحمر والبرتقالي ، وزُينت السماء بظلال سرب من الطيور المهاجرة متجهة نحو الغروب، مُشَكلةً بذلك لوحة فنية متحركة، للأسف عيني الفتى كانتَا محرومتين من أن تشهدا جمال وروعة هذا المنظر المهيب.

لكن على الرغم من أنه لم يستطع رؤية غروب الشمس ، إلا أنه كان مدركا أن الوقت قد حان لكي تغرب تحت الأفق، فقد شعر بدفئها يتلاشى تدريجيا و بدأت درجة الحرارة تبرد.

بالنسبة للصبي الأعمى ، العالم عبارة عن سيمفونية من الأحاسيس والأصوات ، قد يكون صوت خطوات أحدهم، أو صوت هزاز الكرسي ، طقطقة المطر على السطح، صوت حفيف الأشجار ، أو صوت الرياح الباردة...، لكل صوت لحن فريد ومميز يحكي حكايته الخاصة، لكن وسط كل هذه الأصوات الجوفاء التي ملأت عالمه كل يوم ، كان هنالك صوت واحد لا يزال يجلب له الراحة و السلام..، صوت زقزقة العصافير وألحانها الحلوة النابضة بالحياة ، كان صوت نقيقها وغنائها كل صباح بمثابة تذكير له بالجمال الذي لا يزال موجودًا في هذا العالم القاسي ، ومع ذلك حتى عندما جلبت له العصافير الراحة والطمأنينة ، فقد جلبت له أيضًا حزنًا عميقًا ودائمًا. لأنه كان يعلم أنه لن يكون قادرًا على رؤية جمال الطيور نفسها وكيف تبدو حقا ؟ شكل اجنحتها، ألوان ريشها ، أو حتى الطريقة الرشيقة التي حلقت بها إلى السماء العالية...

وبينما كان الفتى الأعمى يجلس هناك غارقًا في تفكيره، وسط سكون تام، انكسر صمت الغرفة بفعل صوت خافت لنسيم بارد دخل من خلال الباب المفتوح، كان يشعر ببرودة النسيم وهي تلامس وجهه ، وقد استمع باهتمام لحفيف أوراق الأشجار البعيدة تتحرك بفعل الرياح ، كان ذلك الصوت بالنسبة له كشهيق لكيان غير مرئي، للحظة نهض من مكانه وقام بغلق باب كوخه الصغير. ثم بدأ الفتى في تحضير عشائه المتواضع المكون من الارز وحليب منتهي الصلاحية، لكن اعتبره الفتى لبناً، بعد تناوله طعامه بسرعة، عاد مرة أخرى الجلوس على كرسيه الخشبي، وهو يمرر أطراف أصابعه المليئة بالندوب على حوافه ، متتبعًا الأنماط المعقدة المحفورة في الخشب، لم ير الكرسي قط ، لكنه جلس عليه مرات عديدة لدرجة أنه سار يعرف كل شبر منه بدقة.

رفع الفتى أصابعه على وجهه ، وقد شعر بتلك الندبات و الجروح الكثيرة التي تشكلت من استكشاف الأشياء الغامضة المحيطة به ، وهي شهادة تروي قصة حياته الصعبة المليئة بالمشقة والتحديات ، صراع من أبسط المهام إلى أصعبها.

كانت أصابعه الصغيرة ملتوية وعقيمة ، وقد تورمت مفاصله والتهبت من سنوات الاستخدام ، ومع ذلك على الرغم من عيوبها ، فقد اعتبرها أكثر أدواته قيمة ، إنها الوسيلة التي تنقل له أشكال العالم الغامض من حوله...

على الرغم من أن الفتى كان مقيدا بالعمى منذ ولادته، إلا أنه كان فضوليا ممتلئا بحب روح المغامرة والإكتشاف، لطالما استغل كل حواسه المتبقية ليستكشف ويفهم الأشياء الغامضة المحيط بعالمه الصغير.
أخيرا، اختفت الشمس تماما دون أن تترك أثرا ، وحل الظلام مكانها، ازداد سكون العالم الخارجي واختفت أصوات البشر، ولم يتبق إلا أصوات الصراصير ونباح الكلاب في بعض الأحيان.
بدأ النعاس يخيم على الصبي الكفيف ويجذبه لأعماق ظلامه، بالنسبة له لطالما كان الليل يحمل جاذبية معينة تجعله يفضله عن ضوء النهار. لأنه في ظلام الليل، حتى أولئك الذين بوركوا بنعمة البصر تسلب منهم أحاسيسهم الثمينة ، يتجولون في عالم من الظلال والأشكال الغامضة مثله، على الرغم من أن تجربته الخاصة مع الظلام كانت أكثر عمقًا من معظمهم ، فقد شعر الصبي أن القدر يظهر له قدرًا من اللطف.
نهض الفتى من كرسيه الهش ببطئ شديد متمسكا بحوافه الخشنة باحثا عن مكان فراشه القشي ، و يداه تتعقب حدود الجدران الخشبية.
كل مهمة ، من النوم إلى الأكل وما إلى ذلك ، كانت تتم داخل غرفة بيته الصغير، أو مساحة اعتبرها بنفسه كبيت ، لأنه في الحقيقة أي شخص يمكنه الرؤية سيبدو له مجرد كوخ صغير متداع ليس إلا.
استقر الصبي على سريره المصنوع من القش، وبينما يستعد للنوم تردد صدى صوت في ذهنه يناديه : - « ليث، ليث، ليث...»
كانت تلك ذكرى صوت والدته الراحلة. وهي امرأة لم يشاركها الكثير من الذكريات ، لكن هذا الجزء كان يتذكره جيدًا. أخبرته حينها قصة كيف أطلق عليه والده اسم " ليث "عند الولادة ، وهو ما يعني"الشبل". وقد قالت له إنه رمز للقوة والمثابرة مثل شبل تّرك وحيدًا في الغابة مواجهًا كل صعابها، وهو اسم مناسب لصبي سيواجه العديد من التحديات والعقبات في حياته... كانت هذه أخر كلمات سمعها من والدته قبل أن تفارق الحياة ، وأخر كلمات سمعها في ذهنه قبل أن ينجرف الفتى في نوم عميق..
في اليوم التالي استيقظ ليث من النوم مبكرا ، وأذناه الحادتان تتناغمان مع أصوات الطيور وهي تزقزق وتتنقل بين أغصان الشجيرات المحيطة بكوخه الصغير ، وبينما يستمع إلى ألحانها، بأيد رشيقة أعد فطورا متواضعًا من الخبز والزيتون، كان يوم الخميس، يوم السوق الأسبوعي ، وهو يوم بالغ الأهمية بالنسبة للفتى ليث لأنه في يوم السوق، يقوم بجمع القبعات والحقائب القشية الصغيرة التي صنعها بيديه لببيعها، هي المصدر الوحيد الذي يكسب به رزقه اليومي. لقد كان بارعا في فن نسج القش وتشكيله.
لقد ورث هذه المهارة من جدته، التي اعتنت به بعد وفاة والديه عندما كان طفلاً في الخامسة من عمره، عُرفت جدته أنها مصابة بالعمى ايضاً، لكنها لم تولد كذلك، أصيبت بالعمى في وقت لاحق من حياتها عندما نال منها المرض، فقد اعتادت أن تصف له كل الأشكال الغامضة في العالم التي لا زالت في ذكريات حياتها قبل أن تفقد بصرها. سردت له جل الأشياء المبهمة بوضوح قدر استطاعتها ، لكن كان هناك جانب واحد من العالم لم يستطع الصبي الكفيف فهمه حقًا - عالم الألوان، لم تستطع العجوز الطيبة أن تنقل للفتى جوهرها وماهيتها...، فقد كانت الأوان لغزا غامضا لا يستطيع حله أبدًا..
ومع ذلك كانت جدته رفيقته الوحيدة في العالم المظلم الذي تشاركاه ، حتى وافتها المنية قبل بضع سنوات، منذ ذلك الحين عاش الصبي وحيدًا يناضل في عالم من المبصرين..

كفاح في عالم من المبصرين حيث تعيش القصص. اكتشف الآن