شهاب

21 2 2
                                    

كان يوما متعبا حقا وانا ارتب الكتب و اعيدها إلى مكانها حين و جدت تلك الحقيبة الصغيرة أين كانت تجلس الفتاة التي تدعى جوليا ..فتاة جميلة و غريبة تحمل في نظراتها شيء ما مكسور ذلك الظل يحيط حدقتيها البندقيتين يخبرك بألم دفين كأنها حاربت الجميع من أجل الصمود ، إذ أنني لم أتساؤل يوما عما يقرؤه الزبون لكن امرها محير ، اختارت كتب قديمة جدا لم تكن تقرؤها حتى، بل تقلب في صفحاتها بسرعة كأنها تتصفحها فقط وملامح وجهها تتغير في تناوبها لكل كتاب، كنت ألاحظها من بعيد حتى فقدت الوعي و تلك الكلمات التي تفوهت بيها و هي مغمى عليها، كلمات غير مفهومة بدت كأنها لغة قديمة ثم صراخها و بكاؤها الذي لفت انتباه الجميع حتى أنها جعلتني أقلق و شعرت أنه علي أن أهتم بها، و رغم رقتها إلا أنه بعد عودتها من دورة المياه بدت كشخص آخر تماما كلها ثقة و قوة على عكس ما كانت عليه ذي قبل .
حملت تلك الحقيبة وضعتها في مكتبي و اخرجت هاتفي ، كان الوقت لا يسمح باتصالي بها ، فارسلت لها رسالة نصية أخبرها عن حقيبتها، انتظرت قليلا حتى جاءني ردها في رسالة كالآتي :
شكرا لك السيد شهاب ، سأعاود الاتصال بك غدا لأرى اي يوم يمكنني القدوم و استعادتها .
أغلقت المكتبة و عدت للبيت أين وجدت والدتي قد حضرت بعض العشاء الطيب ، قبلت جبينها حبا و امتنانا لسعيها في الاعتناء بي رغم كبر سنها ، فبعد وفاة والدي أصبحت أنا من اقوم بأعمال المكتبة وأعيل البيت .
تناولنا عشاؤنا في هدوء و دلفت غرفتي متوجها إلى الشرفة أين تعودت أن أجلس و أخاطب النجوم بعد قراءة أسطر من كتابي ، لكن تلك الليلة سرحت في جمال السماء فرغم عتمتها هاهي النجوم تزينها ببريقها ، وفي تلك الأثناء سمعت صوت حركة من ناحية الأشجار بجانب الشرفة جلست انظر حتى ظهرت قطة سوداء بريق عينيها كبريق النجوم تقدمت نحوي فاقتربت أداعب وبرها الفاخر.. نظرت لوهلة ثم حدثتها : توقفي لحظة! انت تشبهين شخصا أعرفه ! انك تشبهينها لطيفة و جميلة و ابتسمت و عدت لأقول عندما رأيتها تنقض على إحدى الحشرات : و شرسة أيضا مثلها تماما ...

استيقظت باكرا و استعدت للخروج ولم أشئ ان أوقظ أمي فتركتها ترتاح اقتنيت كوب قهوة من المطبخ و رحلت للعمل و انا في الطريق جاءني إتصال جوليا فرديت مباشرة ليأتيني صوتها من الجانب الآخر : مرحبا ....صباح الخير..السيد شهاب كيف حالك
فأجبتها: صباح النور ..بخير و أنت هل صرت أحسن الآن ؟!
فردت قائلة : نعم انا بأفضل حال شكرا على سؤالك أرجو أنني لا أتصل في وقت مبكر !
فقلت : لا..لا بالطبع تفضلي..
أردفت قائلة : حسنا.. سيتعذر علي المجيء و استعادة الحقيبة هاته الأيام إلى حين يوم بدء مداومتي الجامعية كما تعلم الطريق إلى المكتبة بعيد و علي أن أنتظر حتى أفرغ من جميع انشغالاتي
فأجبتها بعد ان أحسست بالعجز في صوتها و رغبت في مساعدتها للمرة الثانية : لدي حل آخر يمكنه مساعدتك إذا أردتي، سأحضرها لك إلى مقر جامعتك او أي مكان قريب منها ، لدي بعض الأعمال في المدينة تستوجب علي الحضور في أقرب وقت
هتفت قائلة : حقا ! سيكون من دواعي سروري..و سكتت لبرهة بعدما تيقظت لردة فعلها المندفعة ثم قالت : إذا كان هذا لا يزعجك بالطبع ، لا أود أن أتعبك معي كثيرا يكفي مساعدتك لي في المكتبة
فأردفت قائلا : لا ..أي تعب لدي أعمال في المدينة سيكون هدرا لهذه الفرصة إذا لم أحضرها معي ..
أغلقت الخط بعدما اتفقنا على يوم الأحد لنلتقي بالقرب من الجامعة كي أعيد لها الحقيبة أو لأنني وددت أن أساعدها و أراها مرة أخرى ..
مرت الأيام وكنت مشغولا كثيرا في المكتبة لكن هذا لم يمنع تفكيري أن يذكرني بجوليا ، كان تفكيرا غريبا بقدر فضولي عنها ، وقبل أن اغلق ابواب المكتبة تسللت لعقلي فكرة ، فقصدت غرفة المخزن أين تكدست تلك الكتب الرثة ، حملت إحداها و قلبت صفحاته قرأت بعضها ، إنها مجرد قصص من العهد القديم ، ثم تنبهت لنفسي و ما الذي أفعله هذا ليس من عادتي أن أتطفل على ما يقرؤه غيري فأعدته بسرعة لكن وقعت منه ورقة ، التقطتها و جلست أنظر إليها في دهشة، رسمت فيها إمرأة ذات شعر أسود منسدل تشبه إلى حد كبير جوليا ، بلى إنها هي !
خبأت الصورة في جيبي و غادرت.
صباح مشمس ، اغتسلت و ارتديت ملابسي ، و كان باد على وجهي الإرهاق و التعب ، ألم يعتصر رأسي ، تناولت قهوتي و حملت الحقيبة و ضعتها داخل محفظتي التي تكدست بالاوراق ثم تذكرت الحلم الذي راودني أمس كانت جوليا ...نعم كانت هي في الحلم تصرخ و تبكي و تنادي " ساعدني ...ساعدني" كنت أنظر لها من بعيد عاجز عن الحراك كأني مكبل الأيدي و الارجل ثم رأيت شخصا يسحبها و اختفت فجأة ، لكن بدت مختلفة شعر طويل و فستان بالي من العصور القديمة فلاح إلى ذاكرتي الصورة التي وجدتها في الكتاب ، فتشت عنها في ملابسي لكن لم أجدها حتى ظننت أنني توهمت الأمر ، فصرفت تفكيري عن الموضوع عندما وجدت أنني تأخرت عن توقيت الحافلة ، خرجت مهرولا بعد ان ودعت والدتي و التحقت بالحافلة في آخر لحظة .
وصلت إلى هناك و كان موقف الحافلة بعيدا قليلا عن مكان الجامعة ، فمشيت بعضاً من الوقت إلى أن وصلت أمام المدخل نظرت إليها في حلتها الحديثة و تذكرت الأيام الخوالي حين كنت أرتادها و عادت إلي صور الماضي وذلك اليوم المشؤوم و الذي بسببه لم أكمل دراستي تراجعت للخلف ولم اود الدخول، أخرجت الهاتف من جيبي و اجريت الإتصال لكني رأيتها تخرج من المدخل و تنظر يمينا و يسارا تتفقد حولها ، ترتدي ثوبا سماوي اللون و تسرح شعرها ذيل حصان ، تضم بين ذراعيها مجموعة بسيطة من الكتب و حقيبة بيضاء معلقة بكتفها ، جلست أتأمل في تلك الفتاة و كأني أراها للمرة الأولى و نسيت الهاتف الذي يرن لها في أذني إلا بعد أن تخلل صوتها اللطيف مسمعي : مرحبا ..أهلا السيد شهاب
أجبتها : مرحبا ..أنا أمامك مباشرة في الجانب المقابل من الطريق
بحثت علي بسرعة حتى ترصدتني عيناها البندقيتين ، فأشرت لها بيدي ،فردت قائلة قبل أن تغلق الخط : أها أنت هناك ..أنا قادمة.
عبرت الطريق أمامي و ما ان اقتربت حتى قالت والإبتسامة تغزو شفتيها : مرحبا كيف حالك ؟
و بادلتها انا بالإتبتسام و قلت : بخير و أنت ؟
أردفت قائلة : بأحسن حال . ثم أضافت : دعنا نجلس في مكان ما من فضلك . ثم عادت تنظر حولها في ترقب و عيناها ملؤهما القلق ، فسايرتها و رحنا نجلس في إحدى المقاهي القديمة تقبع بجانب الجامعة تكاد تخلو من الناس ،فسألتها بعد لم تزل تلك النظرة من عينيها : هل كل شيء على ما يرام؟ أهناك ما يقلقك ؟
فردت قائلة : لا..لا أبدا أنا أتوارى عن ضجة الزملاء فقط اريد بعض الخصوصية ، كما أود أن أضيفك اليوم على حسابي .. لا إعتراض أرجوك هذا إمتناني لك على تصرفك الطيب معي.
فضحكت للطافاتها و أومأت لها إيجابا و قلت : حسنا إذا كان ذلك يشعرك بالرضى .
طلبنا بعض العصير و تحلية ، و تحدثنا قليلا عن أمور الجامعة و عن تخصصها و عن تخرجها في هذه السنة ، كنت أصغي لها باهتمام إلى أن توقفت للحظة و سألتني : و ماذا عنك ؟ ماذا درست ؟ اقصد ما هو تخصصك ؟
فتغيرت ملامح وجهي و عادت إلي مجددا أحداث ذلك اليوم ، فقلت مغيرا الموضوع : آه نسيت !
حملت محفظتي و أخرجت حقيبتها و أضفت : كدت أنسى أمرها !
رن هاتفها فجأة ، تفقدت الشاشة و عاد إليها قلقها استأذنت و أجابت و كانت نظراتها تحكي الكثير لكني أجهله ثم قالت مخاطبة صاحب الإتصال : حسنا سوف أعود الآن .
نظرت إلي بتوتر ثم أردفت : أعتذر حقا علي العودة ، المحاضرة على وشك البدء .
فأجبتها : لا مشكلة ، فأنا أيضا لدي أعمال أقوم بها .
و قبل أن تذهب فاجأتني بقولها: سنلتقي مرة أخرى إذا !
فابتسمت لها و قلت : حسنا إن كان الامر كذلك سأدفع أنا هذه المرة و سأتركك تفعلين في المرة المقبلة .
فقالت : لكنك ضيفي اليوم !...قاطعتها قائلا: لا بأس سأكون ضيفك مرة أخرى .
رن هاتفها مجددا فاستسلمت و قالت : سأوافق فقط لأني متأخرة ، سأراك لاحقا إذا . وغادرت مسرعة حتى انها نسيت أخذ حقيبتها ، دفعت الحساب و لحقت بها ، رأيتها تقف من مقربة مدخل الجامعة ثم تقدم نحوها شاب و سحبها من يدها بهدوء ، شعرت أن هناك خطب ما ، تبعتها بنظراتي إلى أن اختفت في إحدى الأزقة من الجانب الآخر من الجامعة ، أسرعت لاحقا إياها و كنت على وشك الوصول حتى سمعت صراخا ، فتملكني الخوف أسرعت أكثر و دقات قلبي تتضاعف ، و جدتها تقف بمحاذاة سيارة سوداء و أمامها ذلك الشاب ممسكا يديها بإحكام و يدنو منها لكنها كانت تدفعه و تقول : قلت لك اتركني و شأني ..ماذا تريد مني .
لا اعرف كيف و جدت نفسي أركض نحوه و اجذبه من قميصه ثم ألكمه بقوة حتى وقع أرضا ، نظرت إلي هي الأخرى بنظرات الدهشة و الخوف معا ثم قالت و الدموع تملأ جفنيها : شهاب ماذا تفعل هنا !
اقتربت منها و قلت : هل انت بخير ؟! هل تأذيت ؟

الغاثان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن