الحقيقة

20 2 11
                                    

حان وقت العشاء ، تلك الطاولة مجددا ، و نحن جالسون سألتني جدتي باهتمام : كيف جرت الأمور اليوم ؟ هل اتممت واجباتك ؟
أجبتها و قد تذكرت بأنه علي العودة مرة اخرى : آه نسيت ان أخبرك ، لم تتوفر بعض الكتب و عليا العودة لتلك المكتبة هذا الأسبوع، سأتواصل معهم لأعرف أي يوم تكون متاحة .. و انتظرت ارى ردة فعلها في ترقب
فقالت : حسنا بما أنك في حاجتها حقا يمكنك الذهاب ، لكن أخبريني مسبقا عن يوم ذهابك .
اكتفيت بإماءة و انا اعلم أنها تريد معرفة يوم ذهابي كي  يوصلني رامي ككل مرة ، الذي أصبح يزاولني كظلي فلم أعد أستمتع بحريتي خارجا و تلك العيون الخبيثة تراقبني ...
انهينا عشاؤنا و عدت للغرفة ، أمسكت هاتفي و رميت نفسي على السرير ، دققت في تلك الفقرات مرة أخرى ، كانت رسائل موجهة إلى شعوب ما ظلمت من قبل الحياة او خانها الزمن لكنه وعدها بالإنصاف عن طريق تكرار الأرواح ... كيف ذلك ؟! أتموت الأجساد و تبقى أرواحها تهوم بحثا عن أجساد أخرى ؟! تعبت و انا أحاول ان أفكك تلك العبارات وهي كضرب من الخيال يصعب تصديقه
ليلة عادية بدون أية كوابيس او احلام حتى تلك العلامة في يدي باتت باهتة و مرت الأيام دون جديد ، اقتربت نهاية الأسبوع و رأيت أنه علي أن أتصل بالمكتبة و أسأل  ، حملت هاتفي و أدخلت الرقم ، انتظرت قليلا ثم آتاني الصوت من الطرف الآخر : مرحبا تفضل
أجبت قائلة : مرحبا سيدي ، انا الفتاة التي حجزت على الكتب مؤخرا ..أتذكرني ؟!
قال مجيبا : نعم سيدتي مرحبا بك ، يبدو أنك ستسألين عن الكتاب المستعار
فقلت : اجل ، هل بات متوفرا ؟
هتف قائلا : إنك محظوظة سيدتي،  اليوم صباحا احضره الزبون .
شكرته و اغلقت الخط ، غيرت ملابسي بسرعة و ذهبت إلى جدتي ، كانت تجلس في غرفتها كعادتها ترتشف فنجان قهوتها المر ،طرقت الباب بثبات و دلفت بعد ان أذنت لي ..ترددت لوهلة حين رمقتني بنظرتها الحادة تنتظر كلامي ، ثم قلت :
لقد اتصلت اليوم بالمكتبة ، و ..و على ما يبدو أن الكتب في حوزتهم .. ثم سكت لبرهة و اكملت حتى لا أترك لها مجالا للرفض : أرى أنه من الأفضل ان أذهب اليوم ليس لدي الكثير من الوقت ثلاث أيام و ابدأ بمزاولة الدراسة...
حدقت بي مطولا تحاول أن تجد حلا مرضي لكبريائها ثم قالت في استسلام : يمكنك الذهاب إذا ..لكن رامي مشغول اليوم ستذهبين لوحدك اتصلي بي عندما تصلين و لا أريد تأخيرا الدخول يكون قبل الرابعة مساءا.
هللت تعابير وجهي  .. أخيرا بعض الهواء النقي دون أن يشاركني فيه ذلك المتطفل ، حضرت تلك الحقيبة الصغيرة و أسرعت خارجا ، كم اشتقت لعزلتي ، مشيت إلى موقف الحافلة انتظرت قليلا و ها هي قادمة ، صعدت و اتخذت مقعدا بجانب النافذة ، سرحت في افكاري المتراكمة و ما تخبؤه لي الحياة .
«شرودها كان كافيا لينسينها ملل الطريق ، توقفت الحافلة نزل الجميع وكانت آخرهم ، تعمدت الانتظار حتى لا تدخل في ذلك النزاع المعروف عند النزول من كل حافلة، مشت قليلا و من حسن حظها لم تكن المكتبة ببعيدة عن موقف الحافلات ».
وصلت إلى هناك ، كان بابها مفتوح على مصرعيه فدلفت و لم تكن شاغرة كالسابق بل قد زارها بعض الزبائن،  أما هو كان كما تركته سابقا مكبا على تلك السجلات و الكتب لكنه اليوم قد رتب تلك الخصلات ويبدو أنه ارتدى أفضل ما يملك .
وقفت عند مكتبه و ألقيت كلمات التحية على مسمعه:
مرحبا سيدي !
وقف مسرعا حين ادركني وقال : أهلا سيدتي كيف حالك ؟
قلت بامتنان: بخير شكرا على سؤالك ، ثم أشحت بنظري في الداخل و أضفت :  تبدو بحال أفضل اليوم  ..
أجاب وهو يضع تلك السجلات في الدرج : نعم لقد اجرينا بعض الترتيبات حتى نسهل عملية البحث للزبائن
ثم اخرج الكتب كلها أمامي بالإضافة إلى الكتاب الذي يضم الرواية السابعة و قال :
لقد اكتملت سلسلة الكتب خاصتك تفضلي .
ابتسمت وحملتها بصعوبة فأوشكت أن أوقعها لكنه سارع في مساعدتي و وضعها هناك أين أخبرته في طاولة جانيبة بين الرفوف شكرته و شرعت ألتهم تلك الصفحات المتتالية إلى حين وجدت الفقرة الثالثة في الرواية الموالية ، كانت تحكي بصورة مبسطة كالتالي:
" عاشت في القديم شعوب فقيرة لا جاه ولا مال تلم بقايا الملوك و الطغاة من الطبقات الغنية ، تتخبط في ازدراء المعيشة أمراض و قلة طعام ، عدل غائب يتخذ مكانه الظلم يتربع على عرش الحقوق يسلبها لمن يشاء و يعطيها لمن كان أقوى ...لم تتعالى الأمال في نفوسها يوما و استغلت اجسادهم في أشقى الأعمال إلى أن جاء ملك حالم ، يهوى العدل ، يربت على تلك الأكتاف المقاومة ، يجول في شوارعهم الموحلة بحذائه الفخم دون أن يقلق على اتساخه ، يقرع باب كل عطشان ليبحر إليه بمياه عذبة .. كان ذلك الهتاف عندما يعلو منصة الخطاب لا يعجب الكثير من الذين اعتادوا على ان لا يشاركوا طعامهم الفاره مع هؤلاء و بالطبع لن يرضيهم ما يطمح إليه الملك فلم يقفوا مكتوفي الأيدي فتخلصوا منه بسرعة و عادت غيمة رمادية تقبع فوق رؤوس الحالمين "
أما الرواية الرابعة فقرتها حكت عن قتل شخص ما و إضرام النار فيه بعد تعذييه فكان ذلك الشخص هو الملك  الصالح ، وتلتها الفقرة الأخرى من الرواية الخامسة إمرأة جميلة لضعفها كبلت و اغتصبت و انتهى بها الأمر بالقتل و الفقرة من الرواية السادسة كان مضمونها أكثر وحشية حين اختطف طفل و عذب بشتى الطرق حتى الموت ..
رفعت رأسي و كانت الدموع قد تجمعت بين جفوني لهول ما قرأت أحسست بألم في صدري فلمعت العلامة بيدي و توهجت حينها أحسست بقوى ثائرة بداخلي رغم برودة أناملي ، ارتفعت ضربات قلبي و شعرت أنه سيقتلع من مكانه ، فوقفت لكن قدماي لم تسعيفانني و سقطت أرضا ..
أين أنا ؟!  كنت أقف في تلك الباحة المكتضة ملابس من عهد قديم ، ضجيج هائل ثم سكت الجميع فجأة بعد ان صعد رجل ضخم البنية طويل القامة ذو لحية سوداء و شعر كثيف إلى خشبة مربعة تشبه المنبر، ملابس مزخرفة و مرقطة بأحجار كريمة ، تكاد تصرخ معالم الرجولة و الشهامة من كل جزء فيه ثم تحدث قائلا :
لا مزيد من الظلم ، سنعيش كلنا في سلام ، ستنالون حقوقكم كغيركم لا تمييز ولا تفرقة بعد الآن ...أعدكم أنني سأحاول بكل ما أوتيت من قوة ..
كانت تلك العبارات كافية لتشحن تلك الوجوه الشاحبة بالأمل و تجعلهم يهتفون باسمه " يعيش الملك غاثا  "
ثم إختفى الجميع أمامي و تغيرت الصورة و بدا الوقت ليلا و تلك الباحة تشع بألسنة اللهب، مجموعة من الرجال يضرمون النار في جسد توزعت في انحاءه كدمات و دماء، كانت تلك النظرة القوية في عينيه ترهب من حوله حتى وهو في أضعف حالاته، كان الملك نفسه.. بعد لحظات بات جثة متفحمة وسط نظرات الرعب و بكاء شديد ...ثم أرى أمامي احتجاج الناس امام القصر بصوت واحد يهتفون :" نريد حق الملك " " نريد حق الملك" ، فتصدهم جيوش القصر ثم يهجمون عليهم بالضرب غير عابئين ان كانوا صغارا ام كبارا ... رجالا ام نساءا...بعدها وجدت نفسي بين أزقة ضيقة ، إمراة شابة ذات شعر أسود و عيون بندقية كانت ملامحها تشبهني كثيرا تركض و خلفها فارس فوق حصانه يتطاير من عينيه الشرر، فتصل إلى بيتها و تحتمي وراء والدها العجوز الهزيل ليلحق بها الفارس و ينزل من حصانه محطما الباب و يسحب الرجل العجوز بقوة حتى يسقط أرضا ثم يجذبها من ذراعها و يقول:
لا يمكنك الهرب مني أنت لي .  يشم شعرها المنسدل على كتفيها ، فتصفعه بقوة و هي تحدق به بنظرة تشبه نظرة الملك ، و يزداد غضبا ليجرها من شعرها و يدخلها إحدى الغرف ثم يقوم بتمزيق ملابسها دون رحمة و ينقض عليها ليفترس شرفها وسط صراخ و بكاء مرير ..و ينتهي بها الأمر برميها من أعلى الجرف . جثوت على ركبتي من الصدمة لكني وجدتني عند طفل شجاع يتحدى بعض الرجال الطغاة و يدافع عن أمه بعدما تعرضت للمضايقات من قبلهم ، فيخطف و يعذب من تحت ايديهم المتوحشة كنت أرى ذلك و انا أصرخ لكن لا جدوى فهي كانت مجرد قصص تروى أمامي او صور تعرض  ..
أفقت بفزع أصرخ و ابكي ، كنت ممدة على الارض و شخص يجلس بجانبي يحدثني بكلمات غير مفهومة ، كانت صورته ضبابية من شدة الدموع التي غطت على رؤيتي ...أغمضت عينيا و فتحتمهما محاولة مرة أخرى فأدركت أنه صاحب المكتبة  ..
سيدتي ! سيدتي أأنت بخير ؟! قال و كان يبدو قلقا
حاولت الجلوس فساعدني على ذلك .. ثم قلت : ماذا حدث ؟! أين أنا ؟!
قرب إلي كوبا من الماء و حدثني قائلا : لقد فقدتي الوعي سيدتي و كنت تبكين بشدة .. هل أتصل بأحد من أفراد أسرتك ؟ هل لديك أي رقم  ؟
هززت رأسي نفيا و قلت : لا داعي أنا بخير ، ارتشفت بعض الما و طلبت منه أن يدلني على دورة المياه لاغسل وجهي الملطخ بالدموع .
غمرت وجهي بتلك المياه وحدقت في المرآة المهترئة أمامي قليلا و بصوت مرتجف قلت : كان كل شيء حقيقة! لم تكن مجرد قصص !

الغاثان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن