الفصل الثالث

44 9 12
                                    


فَرْطُ السّْكُوتِ علىٰ فَرْطِ الأَذَىٰ سَقَم
قدْ يسّْكُتُ الجُرحُ لكن ينطُق الألَمُ

”الزهرة التي تنبت في الثلج، حتمًا ستذبل يومًا ما“

عدل الصقر من وضعه وأصبح جسده الضخم في مواجهة أيهم“ و انطلق نحوه بسرعة مُرجِعًا جسده إلى الخلف و مُقدمًا مخالبه مستعدًا لينهش جسده، كأنما أطلق من مدفع ما قاصدًا رأس أيهم“ ، انقض عليه فطرحه أرضًا ما إن وصل إليه، وصرخ هو بصوته الأجش المتألم المفزوع، نهض شاهزاد“ مفزوعًا من على الصخرة و فُزع جميع الموجودين و بعثوا صرخات خائفة.
دفن الصقر مخالبه في وجهه بحقد و غرز منسره الحاد في عينيه اليسرى بقوة وغل، ورفع رأسه ليقتلعها من محجرها وتندفع دمائه مختلطة بصرخاته ومندمجة مع الثلوج التي تشربتها و تبدل لونها إلى الأحمر.
متوترون جميعًًا لا يدرون ماذا يفعلون؟ سلَّ الأمير”آرمان“ سيفه من غمده وهوى به على عنق الصقر المعلَّق في منسره عين أبيه التي تقطر دمًا، تكسر سيفه إلى قطع كأنه من زجاج رديء أمام عنق الصقر
احتلت الدهشة وجوههم جميعًا و نظر آرمان“ برعب إلى ”ألمير“ والملك تحت مخالب الصقر يتألم ويأن معدوم الحيلة والقدرة.
سحب الصقر مخالبه من جلد أيهم“ و ألقى على كل واحد منهم نظرة ملتهبة و غادر، حلق في السماء حتى اختفى.
ركضت ”أرازيا“ إلى محل وقوف ”ألمير“ وقبضت على كُم ردائه الواسع بلا وعي، بينما ساند آرمان“و ”شاهزاد“ والدهم حتى استقامت بنيته القوية.
أفلت ذراعيه من أبنائه بغلظة وتكبر و وضع يده يضغط على محل جُرحه الواسع المنسابة منه الدماء على وجهه المخموش من مخالب الصقر.
شق ”شاهزاد" طرف رداءه عرضًا و ناولها لوالده ليربط بها رأسه، انتزعها منه بقوة و عدم تقدير و لفها حول رأسه مرورًا بعينه المقلوعة.
بينما عينه السليمة دارت لترى يد أرازيا" المتعلقة بكم ألمير"
لم يصدر ردة فعل و تظاهر بأنه لم ير ذلك، فكا يديهما بدون أن يلاحظا أنهما قد رؤيا، و سار الملك بغضب إلى قصره خطواته ترج الأرض و معه الجميع.
             ٭٭٭٭٭٭٭٭٭
                    بعد عدة أشهر
يجلس الملك أيهم“ على عرشه متربعًا بجلالة و يحيط به جدران القاعة الحجرية رمادية اللون، ويده تقبض بإحكام على سيفٍ لامعٍ طويلٍ له مقبض أبيض، يمسكه بكلتا يديه و يوقفه أمامه على مقدمته كأنه يثقب الأرض، وعلى عينه كمنت رقعة سوداء جلدية تخفي ما أصابه من جرح، ومخالب الصقر ما زالت تترك أثرها على وجهه المنحوت ذى العظام البارزة، فبات كليًا يشبه أولئك القراصنة الذين يجوبون البحار.
نادى حارسًا و أمره أن يخبر الأميرة أرازيا“ أن الملك يريدها.٠
أومأ الحارس و نطق بكلمات الطاعة وانصرف.
وبعد دقيقتين فقط كانت قد حضرت أرازيا“ إلى القاعة المنارة بمئات من الشمعدانات المحملة بالشموع، و النوافذ الزجاجية التي لا يسعها سوى إدخال قليل باهت من ضوء الشمس المتوارية خلف ندف الثلج.
خطت داخل القاعة و قلبها ينقبض بغرابة، و تزداد نبضاته كأنه مقبل على الموت.
وقفت أمام كرسي والدها مطأطأة الرأس و عاقدة يديها أمامها، تعتصر أصابعها من القلق.
قام من كرسيه ونزل من الأرضية المرتفعة عن الأرضية الأصلية، التى تحمل كرسيه.
قال وهو يتوكأ على السيف
- أتعلمين يا أرازيا“ منذ أن حملت بك والدتك وأردتها أن تجهضك، لم أكن استبشر بهذا الحمل خيرًا على الرغم من عدم علمنا أهو صبي أم فتاة؟..لكن تشبثت بك والدتك، وها نحن نلقى جزاء تشبثها.
لم يقع عليها هذا الحديث الذي ألقي على مسامعها وقعًا كبيرًا في نفسها، فدائما ما تسمع مثل هذا وتُتَرجم أفعاله على هذا.
تنهد وهو يدور في القاعة حولها و سيفه يتخبط خلفه.
- أخبريني أرازيا“ ماذا كنت لتفعلي من خلف ظهري أيضًا.
ارتجفت و تجمدت أوصالها ونظرت إليه في وجل
- ماذا كنتِ لتفعلي محرمّا أيضًا مع ألمير“ لو تأخرت برهة عن المعرفة.!؟
تحشرجت أنفاسها و كادت تهبطت أرضًا.
اغرورقت عيناها وهي تقول
- لم أفعل شيئاً محرمًا.
ظهرت تعابير متهكمة على وجهه
فواصلت أرازيا"
- الحب ليس محرمًا!
ازداد تهكمه وأفصحت شفتاه عن ابتسامة غضب ممزوجة بالسخرية
- وماذا تعلمين عن الحب يا حمقاء!
ضغطت أرازيا على فكيها و اغرورقت عيناها بدموع لم تعرف سببها، ربما لأنها كانت ترغب أن يكون هذا الحديث مع والدٍ متفهم، محبٍ، وحنون، بدلًا من أن  يتوعدها بالقتل كل دقيقة وثانية أن يتفهمها ويساندها ويربت عليها، وألا يجري الحديث على هذا النحو، ودت لو أنها ترى منه القليل من الحب والرضا، لكن هذا واقعها لن تعيش في وهم التخيلات بأنها تمتلك ذلك الأب الذي نسجته مخيلتها العليلة
- ماذا تعلم أنت؟
اختفت إمارات السخرية والتهكم من على وجهه وتغير سريعًا إلى وجه جاد و كارِه
- أعلم فقط أنه ما كان عليك القدوم إلى هذه الحياة!.
- ليس برغبتك حقًا
وقف على بعد منها، وقوس شفتيه لأسفل في حركة سريعة ثم أعادهما
- أعلم أيضًا أن الفتاة التي على علاقة مع رجل دون علم عائلتها هي فتاة عديمة الأدب والحياة، خصوصًا إذا هي أميرة وتمثل مملكة!.
استجمعت قواها ممتزجة مع دموع القهر والضعف في عينيها
-ليس بيني وبينه سوى الحب الخالص، وقد تقدم ألمير" لخطبتي وهو مازال منتظرًا ردك. ثم لا لا تدع الشرف، إنك تفعل كل ما حرمه الله.
- مازلت عند رأيي أنك عديمة الأدب والحياء!
أكمل سيره في القاعة وسيفه يجر خلفه
- أخبريني أرازيا“ مالذي دفعك لحب ذلك الوغد؟!
ردتت في نفسها كلمته الأخيرة؛ فهي لا توحي بالخير أبدًا.
أخذت نفسًا عميقًا و هي تنظر إلى السيف الذي يتلألأ بيد والدها و فكرت فيما قد يفعل بها، بما أنها النهاية فستفصح عما في جعبتها.
- وجدت فيه ما لم أجد فيك وأمي، وجدت فيه حنانًا اهتمامًا و لينًا، كل تلك الصفات آشعت منه دون أن أقترب منه يومًا، وقد عشت معكم دهرًا كاملًا ولم أجدها منكم ولو ضوءًا خافتًا.
هز رأسه بتهكم و وقف أخيرًا بعد أن أنهى سيره في القاعة، و جاء نحوها و وقف في مواجهتها وتجمدت ملامحه
-أتدرين أرازيا" نعم لقد تقدم ألمير لخطبتك منذ شهر.
دق قلبها بسرعة و خالجه الألم لم تعلم أهذا خوف أم سعادة
- لكنني لم أجبه، ولكن قررت أن أجيبه هذا اليوم، أمامك!
وصاح بصوت عالٍ
- يا حراس.
وفي أقل من دقيقة، فُتح باب القاعة و دخل اثنين من الحراس يمسكون رجلًا طويلًا من ذراعيه متهالك وتغطيه الدماء من رأسه إلى أخمص قدمه لا يقوي على السير فيجرونه أرضًا، و ما وصلوا أمام الملك حتى أسقطوه أرضًا على ركبتيه.
ولولا أن القلب لا يكذب وأن أرازيا تؤمن بعينيها، لقالت أن هذا ليس ألمير" لكنه هو، ببنيته الحسنة وطوله الفارع، ملامحه الدقيقة وشعره البني.كل هذا كانت تغطيه الدماء كأنه سقط فيها لا تسقط عليه
ودت لو تصرخ لكنها شعرت بأن انفاسها قد نفذت لا يوجد في رئتيها ما تصرخ به وتعبر عن  روعها.
نظر إليها الملك بعينين شرزتين، بينما وجه كلامه لوجه آلمير“ النازف
- فلتقل آخر كلماتك يا آلمير“
نظر آلمير“ إلى أرازيا“ ودموعه تختلط بقطرات دمه، وسيوف الجنود على عنقه وقال بصعوبة وحنجرة مجروحة وقلب عليل
- وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ مِنّي
وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
  سأتذكرك دائمًا يا أرازيا“، سنتقابل في حياة أخرى.
انهمر شلال من الدموع على خديها و شعرت أن قلبها قد تفجر بين ضلوعها فلا تستطيع جمع شِتاته أبدًا
قال أيهم
- جميل، الآن سأجيبه أرازيا“
ثم حكم قبضته على سيفه و علا به في السماء و نزل به على عنق ألمير“ فطاحت رأسه والدماء تتناثر كأنها تندفع من نافورة.

امتلأت رئتيها بهواء الصدمة وأحرقتها ذراته في صدرها، فصرخت حتى كادت جدران القصر أن تتشقق.

         ★★★★★★★
                  الشمال ” مملكة نوراثيا“
                   في غرفة الملك "سامان"
الملك سامان مسدوح على فراشه والطبيب يفحص ساقه، وحوله أبنائه الأميرة”جيلان“والأميرة”رانسي“ والأمير”ساجي“ وزوجته الملكة”مهيرة“ و القلق مرسوم على وجههم أجمعين
عجب الطبيب عجبًا شديدًا وساوره الرعب و تساءل
- يا سيدي أمتأكد من أن هذه قرصة... ذبابة؟!!
تألم الملك ولم يجب فعقله في حرب مع الألم، فأجاب عنه ابنه
- نعم يا طبيب، لقد كان معنا حين قرصته الذبابة..ومنذ ذلك الحين وساقه بهذا الشكل!
تجعد وجه الطبيب من شدة عبوسه الناتج عن استغرابه؛ فقدم الملك وساقه اليمنى متورمتان للغاية كأنها قدم فيل تكاد تنفجر، و يكسوها الزراق ومظهرها عجيب.
استنكر الطبيب و رج رأسه لا هزها وقال
- لا علاج لهذا سوى بتر الساق يا سيدي.
صُدموا جميعًا لكن الملك صاح بألم غير مبالٍ بما سيحدث
- افعل ما تفعل بها، وخلصني من هذا العذاب.
أومأ الأمير ”ساجي“ آذنًا للطبيب بحزن وبدأوا في إتخاذ إجراءات البتر
أخرج الطبيب من حقيبته الطبية ما يشبه الساطور اللامع و شرع في عمله.
   .                   ★★★★
          في الغرب ”مملكة ويتراسيا“

في باحة قصر ويتراسيا الذي يمتلأ بالأشجار المشذبة والورود البهية كـ ملك و أمراء هذه المملكة
وقف الملك آزر مع ابنيه الأمير”سطام“ والأمير”باتر“ يمازح الذئب الضخم رمادي اللون الذي يتخذه حيوانه الأليف ويعجب الجميع لذلك فكيف لذلك المفترس أن يكون أليفًا.
وقف يداعبه بمحبة و يربت على رأسه والذئب يستطيب ذلك.
وأخذوا يضحكون جميعًا على قفزات الذئب و حبه لهم.
وفجأة تغير شكل الذئب من الودود الطيب إلى خبيث شرس و برزت أنيابه ودخل في حالة من السعار
وإذ به يقضم بشراسة وبأنيابه المسنونة يد الملك آزر“ و ينطلق الدم بحرارة من عروقه و يصرخ هو ويتوجع ويده في فم الذئب يمضغها و صوت تكسير عظامها ينطلق من فم الذئب
صرخ جميع الواقفين و استل الأمير”باتر“ سيفه و غرزه في رأس الذئب بحزن وسخط، فكيف لهذا الذئب الذي عهدوه منذ الصغر أن يستحيل إلى هذا الوحش!.
                       ★★★★★
يكاد الفضول والعجب يودي بعقول الناس أجمعين! كيف تظهر مملكة جديدة حية متكاملة من العدم!؟ كيف هذا؟! الناس والجنود يجوبون تلك المناطق منذ عقود، ولم تكن هناك أية ممالك، لن تشيد مملكة بين ليلة و ضحاها!!.
فماذا يحدث؟

سم رئبالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن