وداعًا

8 1 0
                                    


 


    اخذت سفن بعض الاسطول الذي اعده الجنرال بونابرت تغادر ميناء طولون حاملة جيشه الى ميادين جديدة لتسجل انتصارات جديدة. وعلى ارصفة الميناء تجمع اهل الجنود و اصــدقاؤهم وزوجاتهم وعشيقاتهم لتوديعهم، هاتفين ملوحين بالايدى والمناديل. 

  وكانت الرياح تجري رخاء في ذلك اليوم المتمم للثلاثين من شهر فلوريال من العام السادس الجمهورية ـ 19 مايو سنه 1798 ـ
 
   فانطلقت السفن ناشرة قلوعها، تخفق فوقها الاعلام المثلثة الالوان، ومضت تشق طريقها متهادية فوق صفحة المياه الزرقاء، والشمس تسطع في سماء صافيه خاليه من الغيوم، والجو كله مرح وفرح وآمـال بذلك الاسطول الذي أعاد ذكرى «الارمادا» ذلك الاسطول الذي أعده
فيليب الثاني ملك اسبانيا سنه 1588 ليغزوا به الجزر البريطانيه انتقامــًا لمصرع الملكة ماري ستيوارت.

    كان أسطول بونابرت يتألف من سبع و أربيعين سفينة من سفن القتال،  و سبع و تسعين سفينة من سفن النقل. عدا سفن أخري سبقت الي عرض البحر، أو كانت تتهيأ لكي تلحق بالاسطول فيصبح عدد سفنه نحو أربعمائة.

     و في مؤخرة السفينة «لافر نجانت»  وقف فريق من الضباط، ينتمي أكثرهم الي كتيبة القناصة التانية و العشرون، و كلهم ماعدا واحدًا او اثنين من قدماء المحاربين في عهد الجمهورية. وراحوا وهم متكئون علي الحاجز يرقبون الشاطئ الذى أخذ يختفى شــيئا فشيئا، و قد سادهم الصمت جميعـًا، و صدر كل منهم يخفق بذكرى مؤثـرة يحرص علي كتمانها في طيات الضلوع.

      و أخيرا، رفع أحدهم صوته بكلمة وداع لفرنسا و حبيبته التي تركها فيها. ذلك هو الملازم التاني جاكومان،  ولم يكن قد جاوز العشرين من عمره، و في شعره الاشقر و بشرته الوردية،  و احساسه المرهف ما يجعله أشبه بفتاة مدللة حسناء. فلم يزد الآخرون من زملائه علي أن التفتوا اليه مبتسمين، ثم سرعان ما عادوا الي صمتهم العميق.

    و لو أن احدا سأل ضباط ذلك الاسطول وجنوده:«فيم انتم ذاهبون؟» أو «الى أي شاطئ تحملكم هذه السفن؟». ما كان جوابهم جميعـًا الا أن قالوا مدفوعين بعاطفة الواجب الممـــزوج بالثقة العمياء في القائد العام:«اننا لا نعلم عن وجهتنا شيئا . ولكن هذا لا يهم، و حسنا اننا ذاهبون الي حيث نحرز النصر و المجد بقيادة الجنرال بونابرت! »

    و الواقع أن أمر هذه الحملة أحيط بالتكتم الشديد،  و فيما عدا بعض الاخصاء المقربين من القائد العام، لم يكن أحد يعلم أن مصر هي وجهة هذه الحملة.

و كان الجنرال بونابرت حين عاد الي باريس،  بعد أن عقد معاهدة كامبو  فورميو، و أحرز الانتصارات الباهرة في إيطاليا، قـــد أدرك بفطنته مدى الخطر الكامن وراء امتعاض الشعب من حكومة الديركتوار أو المديرين، و قد صرح ذلك القائد العظيم لاخصائه بقوله:

ـ ان الشعب شديد الرغبة في تحقيق مطالبه،  و قــد مل الانتظار، فلابد  ـ اذن ـ من صنع شئ عاجل لتنفيس هذه الرغبة المكبوتة، و الا أدت الي الانفجار و هلاكنا أجمعين!

   و سعى بونابرت سعيـه حتي عهد اليه في قيادة «جيش انجلترا» و كان المفهوم أن هذا الجيش سيغزو الجزر البريطانية مجتازًا اليها بحر المانش. و لكن بونابرت ما لبث قليلا حتي تبين تعذر هذا الغزو، ولا سِيَمَا أن سيادة البحر كانت حتي ذلك الوقت للأسطــول البريطاني و قائده الجبار الاميرال نلسون. و علي هذا لم يجد بونابرت بدأ من أن يولى وجهه شطر الشرق حيث يستطيع أن يضرب انجلترا ضربة مباشرة لكنها ضربة موجعة و قد تكون قاتلة. و ذلك يقطع طريقها الى الهند. 

     و لم يكن هو صاحب هذه الفكرة،  فقد خامرت قبله أذهان كثيرين مثل «ماجالون» الذي مكث عشــرين سنة قنصلا لفرنسا في مصر و «شوازيل» وزير الملك لويس الخامس عشر، و «ديلاكروا» وزير الشئون الخارجية الفرنسية سنه 1796. لكن بونابرت أعجب بهذه الفكرة بعد أن درسها بدقة، فتبناها و زاد في حماسته لتنفيذها ميله الخاص الى الشرق،  و إيمانه باستطاعته أن يحقق فيه آمالا عظيمة،  كما صرح بذلك من قبل.

    وأعد بونابرت حملته بما امتاز به من حزم ودقة في جميع الاعمال التي اضطلع بها. فحشد في موانىء مرسيليا وطولون وجنوى وفي جزيرة كورسيكا ثلاثين ألف رجل، منهم أربعة و عشرون ألف جندي مقاتل، موزعين على خمس فرق للمشاة وفرقة للفرسان ، وقـد اختارهم جميعا من نخبة الجنود الذين حاربوا في جيـوش الرين وايطاليا. وحشد في تلك الموانىء سفن النقل المزودة بمعدات القتال، والسفن الحربية المعدة لحمايتها. واختار لركوبه السفينة «أوريان» اي الشرق التي يستقلها الاميرال يروى قائد ذلك الاسطول.

   و بدأ شحن المعدات منذ اليوم الثامن من شهر مايو، ولكن شدة الريح وهياج البحر في الايام التالية حال دون اقلاع السفن قبل مساء اليوم التاسع عشر من ذلك الشهر، حيث بدأ الجو ملائمـًا فصدرت الاوامر بالرحيل.

    وفي ذلك اليوم وجه بونابرت الى رجال حملته نداء ذكرهم فيــه بالكتائب الرومانية التي طالما نسجوا على مناوالها، ولابد لهــم من أن يفوقوها فيما بعد. ثم قال:« أن أوربا شاخصة بأنظارهـــا اليكم، و أمامكم مستقبل باهر يجب أن تحققوه. و لسوف تصنعون أكثر مما صنعتم لخير الوطن، و لسعادة البشرية و لمجدكم الخاص!»
      و هكذا لم يسع رجال الحملة الذاهبة الى الحرب الا أن يضعــوا ثقتهم كاملة في قائدهم العظيم، و لم يسع ذوى الاحساس المرهف منهم الا أن يخفوا تأثرهم بمفارقة الوطن و الاهل و الاحبة، ليكونوا عند حسن ظنه بهم.


 

غرام نابليون في مصر للكاتب " روجيه ريجيس"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن