خيط العنكبوت

168 39 18
                                    

قسم الشرطة هو جزء أساسي من هيكل الأمن الوطني، يلعب دوراً محورياً في الحفاظ على الأمن والاستقرار. مهمته الأساسية هي ضمان شعور المواطنين والمقيمين بالاطمئنان عبر وجود قوة قادرة على حماية المجتمع من المجرمين والمخاطر. ورغم تغير الزمان وتطور الأساليب، يبقى دور الشرطة ثابتاً كعين ساهرة على أمن الوطن.

في الماضي، خلال فترة الخلافة الإسلامية، كانت قوات الأمن تُعرف باسم "العسس"، وكانوا يتولون مهمة الحراسة الليلية في المدن لحماية الناس من اللصوص والجرائم. ومع مرور الزمن، تطورت الأجهزة الأمنية لتواكب التغيرات الحاصلة في طبيعة الجرائم والتحديات الأمنية، وانقسمت إلى أقسام متخصصة. اليوم، نجد أقساماً متخصصة في مكافحة الجرائم الإلكترونية، الجرائم المالية، والإرهاب، إلى جانب مهام الشرطة التقليدية في مكافحة الجريمة وتنظيم المرور.

تطور أقسام الشرطة يعكس التغيرات التي يشهدها المجتمع والأساليب التي يستخدمها المجرمون. ومع ذلك، تبقى الغاية الأساسية واحدة: الحفاظ على الأمن، وتوفير بيئة آمنة يعيش فيها الجميع بسلام.

قسم البحث والتحري 

في قسم الشرطة، حيث يُخطط كل شيء بعناية وتدار التحقيقات بمهارة، كان هناك فريق من المحققين المخضرمين. لديهم سجل طويل في حل الجرائم المعقدة، سواء كانت جرائم قتل، أو سرقات معقدة، أو عمليات احتيال مُتقنة. يتقنون دراسة مسارح الجريمة بحنكة، يجمعون الخيوط بخبرة، ليصلوا في النهاية إلى اعتراف الجاني قبل إحالته إلى النيابة العامة، ومن ثم إلى المحكمة. النظام واضح في هيكليته، لكنه معقد في تنفيذه.

في أحد الأيام، دخل رجل بدوي إلى مكتب المدير العام للقسم، رجل أنهكته الحياة، وتكاد ملامحه تعكس السنين التي عاشها وكأنها سبعون عاماً، رغم أن عمره الحقيقي لم يتجاوز الخمسين. ملامح وجهه محفورة بالتجاعيد، يده قاسية من العمل اليومي الشاق، وكان واضحًا أن الشمس قد رسمت على بشرته آثار الزمن.

الرجل، بصوت متهدج لكنه مصمم: "حلالي... ضاع، سرقوه."

رفع الضابط نظره نحو الرجل، محاولاً تهدئته: "كل الأمور طيبة، ستهتم السلطات بما جرى."

لم يكن الأمر بسيطًا؛ إذ تعقيد الحالة الذهنية للرجل بعد عملية الاحتيال عليه، وعمره المتقدم، جعلت الضابط يستدعي هيئة مكافحة الفساد، بالتعاون مع المباحث العامة، لإيجاد حل سريع. وبسرعة، أمر الضابط أحد أفراد الشرطة بمرافقة الرجل إلى المباحث، لتبدأ قصة التحقيق في واحدة من أكثر القضايا غرابة.

---

مكتب  المحقق سعود
مكان المكتب الذي يعمل فيه المحقق سعد متواضعاً في حجمه وترتيبه. طاولة بسيطة بلون بني تقف في وسط الغرفة، وعليها ماكينة قهوة أمريكية وطفاية سجائر نصف ممتلئة. رائحة المكان كانت مزيجاً بين القهوة المحترقة والدخان الثقيل، وإذا أغمضت عينيك للحظة، يمكن أن تتخيل نفسك في مقهى ستاربكس مزدحم، لكن الواقع كان بعيداً عن ذلك. هذا كان مقر التحقيقات، حيث تُحَل ألغاز الجرائم.

دخل رجل في منتصف العمر إلى المكتب، ملامحه كانت تعكس القلق والضياع. صافح المحقق سعد وجلَس دون أن يُدعى لذلك، وبدأ يروي قصته بسرعة وكأن الكلمات كانت تتدفق من فمه قبل أن يستطيع ترتيبها. "أستاذ سعد، تعرضت لعملية احتيال كبيرة. هذا الرجل غرر بي بخدعه وكذب عليّ، وسرق مني ملايين الريالات!"

بدأ سعد يكتب أقوال الرجل بهدوء واهتمام، ملاحظاً كل تفصيل. "ما هي صفات المشتبه به؟" سأله.

الرجل تنهد بعمق وقال: "ما شفته، كلمني بالجوال فقط. دفع لي مئة ألف ريال كدفعة أولى من خلال رسائل واتساب. قال لي إنها شراكة مربحة، واستغل ثقافتي المحدودة في التطبيقات هذي."

سعد رفع حاجبه وقال: "وشلون أخذ مية رأس من الإبل؟ وكيف تمت العملية بالضبط؟"

ابتلع الرجل ريقه وقال: "أرسل شركة نقليات أخذت الإبل مني. وقبل بيومين من وصول النقليات، جاءني كداد وعطاني شنطة فلوس."

سعد استغرب وقال: "كداد؟ وش قصته؟"

رد الرجل: "كداد،( رجل يسافر ويرتزق من نقل الركاب في السفر بين المدن). قال لي إن الشنطة فيها ثلاثة مليون ريال مقابل الإبل."

سعد دوّن المعلومة وسأل بجدية: "هل عندك رقم الحوالة أو أي تفاصيل أخرى عن المعاملة؟"

الرجل أخرج هاتفه بسرعة وفتح رسائله، ليعرض على سعد رسالة تؤكد إيداع المبلغ في حسابه. عند رؤية الرسالة، تسارع نبض قلب سعد. كانت الحوالة مكونة من عشرة أرقام، وهو يعرف هذه الأرقام جيداً. رفع نظره إلى الرجل وقال: "هذي الحوالة مرتبطة بقضية أخرى قيد التحقيق. عطيني رقم جوالك، بنتصل عليك لو احتجنا معلومات إضافية."

الرجل غادر المكتب، تاركاً المحقق سعد غارقاً في أفكاره. استند سعد إلى كرسيه، وأخذ رشفة من القهوة التي بدأت تفقد حرارتها، وأشعل سيجارة جديدة. الدخان الكثيف كان يملأ الغرفة، لكن ذهنه كان أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. راح يراجع سجلات القضايا القديمة، وفي واحدة منها وجد ما كان يبحث عنه: سرقة هواتف محمولة بمبلغ مئة ألف ريال، والحوالة المكونة من عشرة أرقام التي أرسلت من المحل كانت مطابقة للحوالة التي أراها الرجل للتو.

لم يكن هناك شك بعد الآن. كان المحقق سعد قد وجد الخيط الذي يربط بين القضيتين، وأدرك أن المحتال ليس شخصاً عادياً، بل هو متسلسل في الاحتيال. كل عملية كانت مُخططة بعناية، وكل ضحية كانت حلقة في سلسلة طويلة من الجرائم.

سعد لم يتردد. وقف بسرعة، وارتدى البريهة الخاصة به – القبعة التي تميز رجال الشرطة في مثل هذه اللحظات. خرج من مكتبه بخطوات سريعة متوجهاً نحو مكتب المدير ليخبره بما اكتشفه. "يا بو فهد ، عندي خيط يربط بين قضيتي الاحتيال. المشتبه به مو بس احتيال واحد، هذا شخص يتاجر بالوهم ومو قاعد يوقف."

المدير، الذي كان يطالع بعض الأوراق على مكتبه، رفع نظره ببطء وقال: "أنت متأكد؟"

سعد أومأ برأسه بثقة وقال: "أي، متأكد. عندي أرقام الحوالات والتفاصيل كلها. لازم نتحرك بسرعة قبل لا يضيع أثره."

وهكذا، بدأ سعد رحلة جديدة في ملاحقة هذا المحتال المتسلسل، وهو يعلم أن كل خطوة تقربه أكثر إلى القبض عليه.

المحتال الانيق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن