" أنت خدش في الصوت وطعنة في الذاكرة ..
أنت دمعة كبيرة..
تبلل العمر كله."مقتبس***
تهاطل المطر بغزارة وضربت قطراته الأرض بقوة وكأنها تلقنها درسا،كاد يهدم تلك البيوت الصغيرة الواقعة في نهاية المدينة أمام الوادي،كانت الرياح تعصف بشدة مبالغ فيها،والرعد كاد يصم الأذن لشدته ..
وقع أقدام شبه حافية صغيرة تجري مسرعة ،أنفاسه تلهث حين يجري وهو يسعل من حين لآخر ،كان يصارع الحياة بشكل كبير مع أنه صغير جدا ..جرى لمدة طويلة حيث لم يحتمل جسده الصغير ولا مناعته من تحمل المزيد،سقط أخيرا على الأرض المبللة مما ارتعش جسده وشعر بقشعريرة كبيرة جعلته لا يستطيع الوقوف وكأنه أصيب بالشلل،شعر بالحرارة العالية في جسمه وكأنها هي التي أدفأته من برودة هذا الكون،أحس جسده الصغير بقطرات المطر وهي تضرب رأسه وجسمه بقوة،بدأت الوساوس والأفكار السوداء التي تأتي حين المرض بالتسلل إلى مخيلته .."أيعثل أنني ثأموت ؟وأمي ألن أراها مجددا .."بدأت تنطفئ شعلة وجوده من هذا العالم شيئا فشيئا ...حتى أحس فجأة بيدين دافئتين تحملانه،ثم غطي بمعطف حريري دافئ ،ومالبث بعض الوقت حتى فقد وعيه ..
لم يمر طويلا حتى استيقظ ووجد نفسه مستلقيا في سيارة مركونة بالمقاعد الخلفية وبدا أنه مرتدي ملابس أكبر منه ومعطف دافئ و مدثرا بغطاء ناعم ،لم يستطع الوقوف من حرارته المرتفعة لذا تكلم بصعوبة وهو يلهث ،أين أنا؟
قالها ببراءة ،لم ينتظر كثيرا حتى سمع صوت شاب وهو يقول:لا تخف يا صغير أنت معي بأمان ..قال الطفل وهو يبتسم :أنت البطل في القصص الخيالية الذي جاء لإنقاذي؟
أجابه :في الواقع ماذاك البطل الخيالي إلا مستوحى من الحقيقة .
- وأين ماما؟
-ذاك هو السؤال الذي كنت سأطرحه عليك،يبدو أنك تعرف أين يقع منزلك ؟
أجابه الطفل الصغير وهو بالكاد يخرج الحروف من فمه:ن...نعم ،لقد بقيت خمسة بيوت واصل لماما ،إنها كانت تنظرنني وانا سعى واءرها ..
قال له مصححا : تنتظرني وأنا أسعى وراءها ..ثم أكمل كلامه مبتسما :لا عليك،سوف آخذك إليها وأنت مطمئن ،فقط نم وسأجلب لك الدواء..
قال الطفل وهو يلهث: و..لماما ..
-بالطبع لك ولأمك ولإخوتك أيضا !
***
شكرت الأم الشاب مبالغة في ذلك كثيرا ..وأكثرت من تلك الكلمات :سأدعو لك في كل وقت ومن أعماق قلبي،غادر الشقة الصغيرة التي كانت تقع في الطابق الثاني من عمارة هشة للطبقة الفقيرة، ركب سيارته ثم نظر للمرآة الأمامية ،عدل خصلات شعره الناعم وابتسم لنفسه ،ثم خرج من تلك الأروقة الضيقة ،وسار مسرعا بسيارته السوداء للطريق السيّار خارج المدينة ،كان كل مرة يظن نفسه مخطئا يدخل لأحد المقاهي الجانبية للطريق ويسأل ،النت لم يكن متوفرا في تلك المنطقة لذا لم يستعن بخرائط جوجل .مرت عدة ساعات حتى وصل لوجهته المطلوبة ..كان طريقا ريفيا بين الجبال الخضراء،"توقف المطر وترك وراءه الكثير من الأوحال .."هكذا نبس في نفسه ..صعد الطريق الجبلية حتى وصل لقرية ريفية، تراءت له وسط أشجار الصنوبر العالية.. ركن سيارته بمركن وجده في مدخل القرية ،سار مشيا على الأقدام حتى وجد ذاك البيت الريفي الصغير،طرق عدة طرقات خفيفة على الباب وانتظر بعض الوقت ،لكن لم يجد ردا ،أعاد انتظاره ثم طرق بقوة أكثر من المرة الأولى وتوالت طرقاته ضربات المطر التي بدت خفيفة على الأول ثم تهاطلت بغزارة ..كان يعيد النظر من النافذة للداخل ليجد قطة بيضاء مستلقية أمام مدفأة جميلة ذات طراز قديم ..فتحت عيونها الزرقاء ثم تمددت بتكاسل وذهبت للصحن الخشبي وبدأت تشرب منه الحليب ..
وهو خارج من البيت ..أحس بدفء المكان من البرودة الشديدة التي كانت تقبع على أنحاء قرية" آكادو" ..
جلس على كرسي خشبي موجود على الحديقة الأمامية اللطيفة،بدأ يتمعن في سقوط قطرات المطر التي تضرب الأرض بقوة معاتبة لها متذمرة منها ،بينما الأرض تَقبَل كل وقعات المطر وهي صامتة ..
فكر محدثا نفسه :هل وقع هذه القطرات أشبه بالمشاكل التي تصيبني وتلحقني في كل دقيقة؟ عددها هائل ومع ذلك فهي جميلة ..صوتها أعزوفة على سيمفونية لطيفة تسمعها الأذن الموسيقية لتطرب باللحن العذب ..
أيا ليتها أعزوفة أيامي ..
لم يقاطع سيل أفكاره شيء ،بل وقف من تلقاء نفسه من الكرسي الخشبي وخرج من الحديقة ليذهب لسيارته فهي أشد دفئا ..
في طريق عودته صادفه صوت أنثوي من وراءه وهو يناديه :أدولف ..أدولف!!
استدار ليجد آنايس تجري محاولة الوصول إليه ،ذهب إليها وأعطاها مظلته ثم قال مبتسما :
-أهلا أهلا بالعزيزة ،مر وقت طويل جدا ..
قالت وهي توقف لهثها:نعم ..نعم ،اشتقت لك،كيف حالك ؟
-على أحسن حال ..
بدآ يسيران باتجاه بيتها ..قطع صمتهما سؤاله :و جدتك؟
نظرت إليه باستغراب ثم أكمل جملته موضحا:كيف حالها؟
أجابته بأسى:لقد نبت الربيع على دمنتها..
رد متأسفا :اوه ،آسف ..سيّرها الله إلى الجنة إن شاء الله ..
-إن شاء الله،لا عليك ،مشيئة الله وقدره..أردفت مغيرة الموضوع:كيف حال ماريسا و أنيتا ؟اشتقت لهما كثيرا.
-لم أذهب لزيارتهما بعد..لكني ..صمت لبرهة ثم نظرت إليه وقرأ في عيونها :أكمل..!
-لنذهب بسرعة للبيت ثم سأحكي لك ..!
نظرت لعيونه العسلية ثم سرحت لبعض الوقت حتى أجابته:أتمنى أن لا يحدث إلا الخير فقط..
- أتمنى أيضا .
***
جلس على الأريكة المريحة في وسط صالة صغيرة ،كان معجبا باللوحات الفنية المعلقة على الجدار،وضعت له آنايس خبزا محمّصا مع مربى التوت،..
قالت له ممازحة :قهوة أم شاي؟
أجاب بنفس النبرة الممازحة :الشاي بالتأكيد..
بعد لحظات أحضرت له فنجان قهوة ساخن مع بعض البسكويت.. شكرها ثم مرت بينهما عدة أحاديث جانبية إلى أن سألته آنايس :هل أنت في طريقك للذهاب لماريسا وأنيتا أم لا ؟
-بالتأكيد ،لكن..سمعت خبرا أن هناك حادثة ..متعلقة بهما،وذاهب لأتأكد .
-خيرا حدث..!
- إن شاء الله ..مررت من هنا لأطمئن عليك يا عزيزتي ..زمان عن الأيام الماضية التي عشناها معا..كلنا ..ّ
أغلقت أنايس عيونها و غرقت في تفكيرها،زين ثغرها ابتسامة لطيفة جعلتها تبدو أكثر جمالا ..تنهدت
ثم قالت :اشتقت لها ..الأيام ومن كانت تؤنسني فيها ..
قال بلطف حتى يؤنسها :رحلت هي ولكن ابتسامتك ولطف قلبك سيدوم للأبد .أعدك بهذا ..
سقطت دمعة على وجنتيها ومسحتها بسرعة ،ثم ابتسمت وقالت : يبدو أنك متسرع في ذهابك لمعرفة ما حدث أم لا ؟
- والله يا عزيزتي لا أعلم،بما أن الجو أصبح معتدلا قليلا فقد أذهب بعد قليل ..
غطى وجهها مسحة من الحزن لكن سرعان ما أزاحتها وابتسمت ..وقف أدولف وجلس بجانبها ،أمسك يدها بلطف
ثم قال:أتمنى لو ..أبقى بجانبك للأبد،لكن مع عملي كما تعلمين لا يمكنني،إن حدث أي شيء أنا بجانبك لاتنسي هذا..
ابتسم بلطف أما هي نظرت في عينيه فسرحت فيهما ومع الكلمات ،كانت تستمع لتلك النغمات التي تصدرها دقات قلبها ..
كانت تستمتع جدا بتلك اللحظات الدافئة،فهي تعلم أنها لن تدوم طويلا ..
***
سارت السيارة بسرعة كبيرة بين الطرق الجبلية المعبّدة حديثا، كانت الساعة ما تقارب الثالثة مساءا لكنها كانت تبدو السادسة .
أعاد النظر لنفسه في المرآة ثم قال محدثا نفسه :ليتني كنت أستطيع أن أبادلها الحضن ،وأفرغ لها شلال قلبي لتغرق فيه .
ليتني ولكني لا أستطيع،..
الخوف هو شعوري حاليا،تجردت من كل الكلمات وخانتني العبارات والجمل،كلما أراها أغرق أنا في عيونها ،وللأسف لست سباحا ماهرا ..
ليتني كنت استطيع مجاملتها ولو بنظرات هي ستفهمها بالتأكيد ..
نزل من السيارة الشاب الوسيم ذو العيون العسلية،صاحب الكنزة الصوفية السوداء فوقها معطف أسود ..اشترى كوب قهوة ساخن ورجع لسيارته ..هو يجذب النساء دائما لكنه لم يقع في شبكاتهن الخادعة أبدا ..ليس كلهن طبعا!
وصل لمدينة نيوزلندا أخيرا نزل في فندق.. استحم ثم نام بعمق .
***
أنيتا آيسون/
استيقظت الفتاة ذات الوجه الملائكي صاحبة الملامح البراقة ..جسمها رشيق وشعرها كثيف وطويل،لونه يخطف القلب،وماذا عن عيونها الخضراء التي إذا نظرت فيهما سرحت بخيالك للبعيد،حتى ولو كنت جميلة إن رأيت لها ستقولين حتما : ما أجملها من فتاة ،جمالي لا يصل لها أبدا ..ما زاد جمالها الحقيقي طيبة قلبها وابتسامتها الخاطفة ..
و للأسف ..ما كان بالأمس قد تفقده اليوم ،ومن يدري .،قد تسترجعه غدا ..
ذبلت تلك العيون والملامح معها،ماذا عن جسد نحيف فقد رشاقته..وعن قلب تراكمت فيه الانهيارات،..
استيقظت ووجدت نفسها على سرير المستشفى ..لا حول لها ولا قوة أبدا،ألقت ببصرها أنحاء الغرفة،كانت فارغة..
لا وقت لأحزانها الآن،كل شيء قد ضاع منذ ذاك اليوم وتلك اللحظة،وجدت بجانبها منضدة صغيرة عليها باقة ورد لطيفة وفوقها هاتف ،حملت الهاتف وضغطت على الكاميرا الخاصة به ،كانت متسرعة لمعرفة ما حل بها .ترددت لدقائق قبل أن ترى نفسها على الكاميرا،كانت خائفة جدا،..
بعد مرور عدة عبارات تشجيعية رددتها داخلها نظرت،..تفاجئت بل صعقت..نبست بخفوت :
- أهذه أنا ؟ ..أغيرتني هذه الشهور لأصبح بهذا الحال ؟
أسرعت في وضع الهاتف وأسقطت دموعها تباعا ..كيف لها أن تصبح كذلك،لا تزال صغيرة لتحمل كل تجاعيد قلبها وتنفض عنها غبار الشباب بتلك السرعة ..مع تغير حالها وملامحها إلا أن بها لمسة من الجمال لم تفارقها ،
يمكن لها أن تتحسن صحيا وتعود كما كانت بل وأجمل ،ولكن القلب لن يتحسن يا عزيزي..
إنه القلب.. وما أدراك بلوحة فنية أبدعها الخالق..!
أنت تقرأ
أعزوفة فن الحب
Romanceقد تبدو الأيام ..ساكنة هادئة بنجومها الليلية ،لكن يا عزيزي أنت لا تعلم ما تخفيه بين طياتها ..كلمات تبعثرت بين السطور إن جمعتها ستدرك أن ضوء القمر الساطع لا وجود له .. ماذا لو تناثرت الأضواء كالنجوم في ليلة موسيقية على المسرح ليظهر صوتها الذي أبدع ال...