إفتتاحية

383 7 0
                                    

"هذه حكاية حارتنا، أو حكايات حارتنا وهو الأصدق. لم أشهد من واقعها إلا طوره الأخير الذي عاصرته، ولكني سجلتها جميعًا كما يرويها الرواة وما أكثرهم. جميع أبناء حارتنا يروون هذه الحكايات! يرويها كلٌّ كما يسمعها في قهوة حيِّه أو كما نُقلت إليه خلال الأجيال، ولا سند لي فيما كتبت إلا هذه المصادر. وما أكثر المناسبات التي تدعو إلى ترديد الحكايات! كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أو سوء معاملة، أشار إلى البيت الكبير على رأس الحارة من ناحيتها المتصلة بالصحراء وقال في حسرة: «هذا بيت جدّنا، جميعنا من صلبه، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع؟ وكيف نُضام؟!»، ثم يأخذ في قَصِّ القصص والاستشهاد بسِيَر أدهم وجبل ورفاعة وقاسم من أولاد حارتنا الأمجاد. وجدّنا هذا لغز من الألغاز. عمَّر فوق ما يطمع إنسان أو يتصور حتى ضُرب المثل بطول عمره. واعتزل في بيته لكبره منذ عهد بعيد، فلم يره منذ اعتزاله أحد. وقصة اعتزاله وكبره مما يحير العقول، ولعل الخيال أو الأغراض قد اشتركت في إنشائها. على أي حال كان يُدعى الجبلاوي وباسمه سُمِّيت حارتنا. وهو صاحب أوقافها وكل قائم فوق أرضها والأحكار المحيطة بها في الخلاء. سمعت مرة رجلًا يتحدث عنه فيقول: «هو أصل حارتنا، وحارتنا أصل مصر أمّ الدنيا، عاش فيها وحده وهي خلاء خراب، ثم امتلكها بقوة ساعده وبمنزلته عند الوالي. كان رجلًا لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذِكره». وسمعتُ آخر يقول عنه: «كان فتوة حقًّا، ولكنه لم يكن كالفتوات الآخرين، فلم يفرض على أحد إتاوة، ولم يستكبر في الأرض، وكان بالضعفاء رحيمًا». ثم جاء زمان فتناولته قِلة من الناس بكلام لا يليق بقدره ومكانته، وهكذا حال الدنيا. وكنت وما زلت أجد الحديث عنه شائقًا لا يُمَلّ. وكم دفعني ذاك إلى الطواف ببيته الكبير لعلي أفوز بنظرة منه ولكن دون جدوى. وكم وقفتُ أمام بابه الضخم أرنو إلى التمساح المحنَّط المركَّب أعلاه، وكم جلستُ في صحراء المقطَّم غير بعيد من سوره الكبير، فلا أرى إلا رءوس أشجار التوت والجميز والنخيل تكتنف البيت، ونوافذ مغلقة لا تنمُّ على أي أثر لحياة. أليس من المُحزن أن يكون لنا جدّ مثل هذا الجدّ دون أن نراه أو يرانا؟ أليس من الغريب أن يختفي هو في هذا البيت الكبير المغلق وأن نعيش نحن في التراب؟! وإذا تساءلتَ عما صار به وبنا إلى هذا الحال سمعتَ من فورك القصص، وترددت على أذنيك أسماء أدهم وجبل ورفاعة وقاسم، ولن تظفر بما يبل الصدر أو يريح العقل. قلت إن أحدًا لم يره منذ اعتزاله. ولم يكن هذا بذي بال عند أكثر الناس، فلم يهتموا منذ بادئ الأمر إلا بأوقافه وبشروطه العشرة التي كثُر القيل والقال عنها، ومن هنا وُلد النزاع في حارتنا منذ وُلدَت، ومضى خطره يستفحل بتعاقب الأجيال حتى اليوم، والغد. ولذلك فليس أدعى إلى السخرية المريرة من الإشارة إلى صلة القُربى التي تجمع بين أبناء حارتنا. كنا وما زلنا أسرة واحدة لم يدخلها غريب. وكل فرد في حارتنا يعرف سكانها جميعًا نساءً ورجالًا. ومع ذلك فلم تعرف حارة حدَّة الخصام كما عرفناها، ولا فرَّق بين أبنائها النزاع كما فرَّق بيننا، ونظير كل ساعٍ إلى الخير تجد عشرة فتوات يلوِّحون بالنبابيت ويدعون إلى القتال. حتى اعتاد الناس أن يشتروا السلامة بالإتاوة، والأمن بالخضوع والمهانة، ولاحقَتهم العقوبات الصارمة لأدنى هفوة في القول أو في الفعل بل الخاطرة تخطر فيشي بها الوجه. وأعجب شيء أن الناس في الحارات القريبة منا كالعُطوف وكفر الزغاري والدرّاسة والحسينية يحسدوننا على أوقاف حارتنا ورجالنا الأشداء، فيقولون حارة منيعة وأوقاف تُدِرُّ الخيرات وفتوات لا يُغلبون. كل هذا حق، ولكنهم لا يعلمون أننا بِتنا من الفقر كالمتسولين، نعيش في القاذورات بين الذباب والقمل، نقنع بالفُتات، ونسعى بأجساد شبه عارية. وهؤلاء الفتوات يرونهم وهم يتبخترون فوق صدورنا، فيأخذهم الإعجاب، ولكنهم ينسون أنهم إنما يتبخترون فوق صدورنا , "ولا عزاء لنا إلا أن نتطلع إلى البيت الكبير ونقول في حزن وحسرة: «هنا يقيم الجبلاوي، صاحب الأوقاف، هو الجدّ ونحن الأحفاد».

شهدتُ العهد الأخير من حياة حارتنا، وعاصرتُ الأحداث التي دفع بها إلى الوجود «عرفة» ابن حارتنا البار. وإلى أحد أصحاب عرفة يرجع الفضل في تسجيل حكايات حارتنا على يدي، إذ قال لي يومًا: «إنك من القِلة التي تعرف الكتابة، فلماذا لا تكتب حكايات حارتنا؟ إنها تُروَى بغير نظام، وتخضع لأهواء الرواة وتحزُّباتهم، ومن المفيد أن تسجَّل بأمانة في وحدة متكاملة ليحسن الانتفاع بها، وسوف أمدك بما لا تعلم من الأخبار والأسرار». ونشطتُ إلى تنفيذ الفكرة، اقتناعًا بوجاهتها من ناحية، وحبًّا فيمن اقترحها من ناحية أخرى. وكنت أول من اتخذ من الكتابة حرفة في حارتنا رغم ما جرَّه ذلك عليَّ من تحقير وسخرية. وكانت مهمتي أن أكتب العرائض والشكاوى للمظلومين وأصحاب الحاجات. وعلى كثرة المتظلمين الذين يقصدونني فإن عملي لم يستطع أن يرفعني عن المستوى العام للمتسولين في حارتنا، إلى ما أطلعني عليه من أسرار الناس وأحزانهم حتى ضيَّق صدري وأشجن قلبي. ولكن مهلًا، فإنني لا أكتب عن نفسي ولا عن متاعبي، وما أهون متاعبي إذا قيست بمتاعب حارتنا! حارتنا العجيبة ذات الأحداث العجيبة. كيف وُجِدت؟ وماذا كان من أمرها؟ ومَن هم أولاد حارتنا؟

أولاد حارتناحيث تعيش القصص. اكتشف الآن