الفصل الأول : "أدهم"

182 3 0
                                    

كان مكان حارتنا خلاء. فهو امتداد لصحراء المقطَّم الذي يربض في الأفق. ولم يكن بالخلاء من قائم إلا البيت الكبير الذي شيَّده الجبلاوي كأنما ليتحدى به الخوف والوحشة وقُطّاع الطريق. كان سوره الكبير العالي يتحلَّق مساحة واسعة، نصفها الغربي حديقة، والشرقي مسكن مكوَّن من أدوار ثلاثة. ويومًا دعا الواقف أبناءه إلى مجلسه بالبهو التحتاني المتصل بسلاملك الحديقة. وجاء الأبناء جميعًا، إدريس وعباس ورضوان وجليل وأدهم، في جلابيبهم الحريرية، فوقفوا بين يديه وهُم من إجلاله لا يكادون ينظرون نحوه إلا خلسة. وأمرهم بالجلوس فجلسوا على المقاعد من حوله، وراح يتفحصهم هنيهة بعينيه النافذتين كعين الصقر، ثم قام متجهًا نحو باب السلاملك. ووقف وسط الباب الكبير ينظر إلى الحديقة المترامية التي تزحمها أشجار التوت والجميز والنخيل، وتعترش في جنباتها الحناء والياسمين، وتثب فوق غصونها مزقزقةً العصافير. ضجت الحديقة بالحياة والغناء على حين ساد الصمت بالبهو. وخُيِّل إلى الإخوة أن فتوّة الخلاء قد نسيهم، وهو يبدو بطوله وعرضه خلقًا فوق الآدميين كأنما من كوكبٍ هبَط. وتبادلوا نظرات متسائلة. إنَّ هذا شأنه إذا قرر أمرًا ذا خطر، وما يقلقهم إلا أنه جبار في البيت كما هو جبار في الخلاء وأنهم حياله لا شيء. التفت الرجل نحوهم دون أن يبرح مكانه وقال بصوت خشن عميق تردد بقوة في أنحاء البهو الذي توارت جدرانه العالية وراء ستائر وطنافس:

- أرى من المستحسن أن يقوم غيري بإدارة الوَقْف...

وتفحَّص وجوههم مرة أخرى، ولكن لم تنُمّ وجوههم عن شيء. لم تكن إدارة الوَقْف مما يغري قومًا استحبوا الفراغ والدَّعة وعربدة الشباب. وفضلًا عن هذا فإدريس الأخ الأكبر هو المرشح الطبيعي للمنصب، فلم يعُد أحد منهم يتساءل عما هنالك. وقال إدريس لنفسه: «يا له من عبء! هذه الأحكار لا حصر لها، وهؤلاء المستأجرون المناكيد!». أما الجبلاوي فاستطرد قائلًا:

- وقد وقع اختياري على أخيكم أدهم ليدير الوَقْف تحت إشرافي..

عكست الوجوه وقْع مفاجأة غير متوقعة، فتُبودِلت النظرات في سرعة وانفعال، إلا أدهم فقد غضَّ بصره حياءً وارتباكًا، وولاهم الجبلاوي ظهره وهو يقول في عدم اكتراث:

- لهذا دعوتكم..

تفجر الغضب في باطن إدريس، فبدا كالثمِل من شدة مقاومته، ونظر إليه إخوته بحرج، ودارى كل منهم- عدا أدهم طبعًا- غضبه لكرامته باحتجاجه الصامت على تخطّي إدريس، الذي كان تخطّيًا مضاعفًا لهم. أما إدريس فقال بصوت هادئ كأنما يخرج من جسم آخر:

- ولكن يا أبي...

قاطعه الأب ببرود وهو يلتفت نحوهم:

"- ولكن؟!

فغضُّوا الأبصار حذرًا من أن يقرأ ما في نفوسهم، إلا إدريس فقد قال بإصرار:

- ولكنني الأخ الأكبر..

أولاد حارتناحيث تعيش القصص. اكتشف الآن