الفصل الخامس:"أميمة"

31 2 0
                                    

"وجد أدهم في أميمة سعادة لم يعرفها من قبل. ولبساطته أعلن عن سعادته بأقواله وأحواله حتى تندَّر به إخوته. وعند ختام كل صلاة كان يبسط يديه هاتفًا: «الحمد لصاحب المنن، على رضى أبي الحمد له، على حب زوجتي الحمد له، على المنزلة التي أحظى بها دون مَن هم أجدر مني بها الحمد له، على الحديقة الغنّاء والناي الرفيق الحمد له». وقالت كل امرأة من نساء البيت الكبير إن أميمة زوجة واعية، فهي ترعى زوجها كأنه ابنها، وتوادد حماتها وتخدمها حتى أسَرتْها، وتولي مسكنها العناية التامة كأنه قطعة من جسدها.. أما أدهم فكان زوجًا مترع القلب بالمحبة وحسن المعاشرة. وكما شغلته إدارة الوَقْف عن جزء من ملاهيه البريئة في الحديقة من قبل، فقد شغل الحب بقية يومه، واستبدَّ به حتى نسي نفسه. وتوالت أيام هانئة، وامتدت فوق ما قدَّر رضوان وعباس وجليل الساخرون، ولكنها ارتطمت في النهاية بذاك الهدوء الحكيم كما تنتهي مياه الشلال المتدفقة الراغية المزبدة في النهر الرصين. وعاد التساؤل يحتل مكانه في قلب أدهم، فشعر بأن الزمن لا يمُرُّ في غمضة عين، وأن النهار يعقبه الليل، وأن المناجاة إذا تواصلت إلى غير نهاية فقدت كل معنى، وأن الحديقة ملهاة صادقة لا يجدر به أن يهجرها، وأن شيئًا من هذا لا يعني بحال أن قلبه تحوَّل عن أميمة، فما تزال في صميمه، ولكن للحياة أطوارًا لا يخبرها المرء إلا يومًا بيوم. وعاد إلى مجلسه عند القناة، وأجال بصره في الأزهار والعصافير ممتنًّا ومعتذرًا. وإذا بأميمة تلحق به مشرقة بالبهجة، فجلست إلى جانبه وهي تقول:

- نظرت من النافذة لأرى ما أخَّرك، لماذا لم تدعُني معك؟

فقال باسمًا:

- خفت أن أتعبك..
- تتعبني؟ طالما أحببت هذه الحديقة، أتذكر أول لقاء لنا هنا؟

وأخذ يدها في يده، وأسند رأسه إلى جذع النخلة مرسلًا طرفه إلى الغصون، وإلى السماء خلال الغصون، وعادت هي تؤكد له حبها للحديقة، وكلما أمعن في الصمت أمعنت في التوكيد، إذ أنها كانت تكره الصمت بقدر ما تحب الحديقة، وكان حديث حياتها أطيب حديث. ولا بأس بالوقوف بعض الوقت عند أهم الأحداث في البيت الكبير، وبخاصة ما يتعلق بزوجات رضوان وعباس وجليل، ثم تغيَّر صوتها مائلًا نحو العتاب وهي تقول:

- أنت تغيب عني يا أدهم..!

فابتسم إليها قائلًا:

- كيف وأنتِ ملء القلب؟!
- ولكنك لا تصغي إليّ..!

هذا حق. ومع أنه لم يرحب بمَقْدِمها فإنه لم يضِق به. ولو همت بالرجوع لأمسك بها صادقًا. والحق أنه يشعر بأنها جزء لا يتجزأ منه. وقال كالمعتذر:

"- إني أحب هذه الحديقة، لم يكن في حياتي الماضية أطيب من جلستها، وتكاد أشجارها الباسقة ومياهها المفضضة وعصافيرها المزقزقة تعرفني كما أعرفها، وأود أن تقاسميني حُبَّها. أرأيتِ إلى السماء كيف تبدو خلال الغصون؟

أولاد حارتناحيث تعيش القصص. اكتشف الآن