الفصل ثاني : "الحديقة و الناي "

55 2 0
                                    

"منذ ذلك اليوم الكئيب وأدهم يذهب كل صباح إلى إدارة الوَقْف في المنظرة الواقعة إلى يمين باب البيت الكبير. وعمل بهمة في تحصيل أجور الأحكار وتوزيع أنصبة المستحقين وتقديم الحساب إلى أبيه. وأبدى في معاملة المستأجرين لباقة وسياسة، فرضوا عنه رغم ما عُرِف عنهم من مشاكسة وفظاظة. وكانت شروط الواقف سرًّا لا يدري به أحد سوى الأب، فبعث اختيار أدهم للإدارة الخوف أن يكون هذا مقدمة لإيثاره في الوصية. والحق أنه لم يبدُ من الأب قبل ذلك اليوم ما ينُمُّ عن التحيز في معاملته لأبنائه. وعاش الإخوة في وئام وانسجام بفضل مهابة الأب وعدالته. حتى إدريس- على قوته وجماله وإسرافه أحيانًا في اللهو- لم يسئ قبل ذلك اليوم إلى أحد من إخوته. كان شابًّا كريمًا حلو المعشر حائزًا الود والإعجاب. ولعل الأشقاء الأربعة كانوا يضمرون لأدهم شيئًا من الإحساس بالفارق بينهم وبينه، ولكن أحدًا منهم لم يعلن هذا ولا اشتُمَّ منه في كلمة أو إشارة أو سلوك. ولعل أدهم كان أشد إحساسًا منهم بهذا الفارق، ولعله قارن كثيرًا بين لونهم المضيء ولونه الأسمر، بين قُوَّتهم ورقَّته، بين سمو أمّهم ووضاعة أمّه، ولعله عانى من ذلك أسى مكتومًا وألمًا دفينًا، ولكن جو البيت المعبق بشذا الرياحين، الخاضع لقوة الأب وحكمته، لم يسمح لشعور سيئ بالاستقرار في نفسه، فنشأ صافي القلب والعقل.

وقال أدهم لأمه قبيل ذهابه إلى إدارة الوَقْف:

- باركيني يا أمي، فما هذا العمل الذي عُهِد به إليَّ إلا امتحان شديد لي ولكِ..

فقالت الأم بضراعة:

- ليكن التوفيق ظلك يا بني، أنت ولد طيب والعقبى للطيبين..

ومضى أدهم إلى المنظرة ترمقه العيون من السلاملك والحديقة ومن وراء النوافذ، وجلس على مقعد ناظر الوَقْف وبدأ عمله. وكان عمله أخطر نشاط إنساني يُزاوَل في تلك البقعة الصحراوية ما بين المقطَّم شرقًا والقاهرة القديمة غربًا. واتخذ أدهم من الأمانة شعارًا، وسجَّل كل مليم في الدفتر لأول مرة في تاريخ الوَقْف. وكان يُسلِّم إخوته رواتبهم في أدب يُنسيهم مرارة الحنق ثم يقصد أباه بحصيلة الأموال. وسأله أبوه يومًا:

- كيف تجد العمل يا أدهم؟

فقال أدهم بخشوع:

- ما دمتُ قد عُهِدَ به إليَّ فهو أعظم ما في حياتي.

فشاعت في الوجه العظيم البشاشة، إذ أنه على جبروته كان يستخفه طرب الثناء. وكان أدهم يحب مجلسه. وإذا جلس إليه اختلس منه نظرات الإعجاب والحب. وكم كان يسعده أن يتابع أحاديثه وهو يروي- له ولإخوته- حكايات الزمان الأول، ومغامرات الفتوّة والشباب، إذ هو ينطلق في تلك البقاع ملوِّحًا بنبوته المخيف غازيًا كل موضع تطأه قدماه. وبعد طرد إدريس ظل عباس ورضوان وجليل على عادتهم من الاجتماع فوق سطح البيت "يأكلون ويشربون ويقامرون. أما أدهم فلم يكن يطيب له الجلوس إلا في الحديقة. كان عاشقًا للحديقة منذ درج، وكان عاشقًا للناي. ولازمته تلك العادة بعد اضطلاعه بشئون الوَقْف وإن لم تعُد تستأثر بجُلِّ وقته. فكان إذا فرغ من عمله في الوَقْف افترش سجادة على حافة جدول، وأسند ظهره إلى جذع نخلة أو جميزة، أو استلقى تحت عريشة الياسمين، وراح يرنو إلى العصافير وما أكثر العصافير! أو يتابع اليمام وما أحلى اليمام، ثم ينفخ في الناي محاكيًا الزقزقة والهديل والتغريد وما أبدع المحاكاة! أو يمد الطرف نحو السماء خلال الغصون وما أجمل السماء! ومرَّ به أخوه رضوان وهو على تلك الحال فرمقه بنظرة ساخرة وقال:

- ما أضيع الوقت الذي تنفقه في إدارة الوَقْف!

فقال أدهم باسمًا:

- لولا إشفاقي من إغضاب أبي لشكَوت..
- فلنحمد نحن المولى على الفراغ!

فقال أدهم ببساطة:

- هنيئًا لكم..

فسأله رضوان وهو يداري الامتعاض بالابتسام:

- أتود أن تعود مثلنا؟
- خير ما تمضي الحياة في الحديقة والناي..

فقال رضوان بمرارة:

- كان إدريس يود أن يعمل..

فغضَّ أدهم بصره وهو يقول:

- لم يكن عند إدريس وقت للعمل، ولاعتبارات أخرى غضب، أما السعادة الحقة ففي هذه الحديقة تجدها..

ولما ذهب رضوان قال أدهم لنفسه: «الحديقة، وسكّانها المغردون، والماء، والسماء، ونفسي النشوى، هذه هي الحياة الحقة. كأنني أَجِدُّ في البحث عن شيء. ما هذا الشيء؟ الناي أحيانًا يكاد يجيب. ولكن السؤال يظل بلا جواب. لو تكلَّمتْ هذه العصفورة بلُغتي لشفَتْ قلبي باليقين. وللنجوم الزاهرة حديث كذلك. أما تحصيل الإيجار فنشاز بين الأنغام».

ووقف أدهم يومًا ينظر إلى ظله الملقى على الممشى بين الورود، فإذا بظل جديد يمتد من ظله واشيًا بقدوم شخص من المنعطف خلفه. بدا الظل الجديد كأنما يخرج من موضع ضلوعه. والتفت وراءه فرأى فتاة سمراء وهي تهمُّ بالتراجع عندما اكتشفت وجوده، فأشار  "إليها بالوقوف فوقفت، وتفحصها مليًّا، ثم سألها برقَّة:

- مَن أنتِ؟

فأجابت بصوت ملعثم:

- أميمة..

إنه يذكر الاسم، فهو لجارية، قريبة لأمّه، وكما كانت أمّه قبل أن يتزوج منها أبوه.

ومال إلى محادثتها أكثر فسألها:

- ماذا جاء بكِ إلى الحديقة؟

فأجابت مسبلة الجفنين:

- حسبتها خالية...
- لكن ذلك محرَّم عليكن..

فقالت بصوت لم يكد يُسمع:

- أخطأت يا سيدي..

وتراجعتْ حتى توارتْ وراء المنعطف، ثم ترامى إلى أذنيه وقع أقدامها المسرعة، وإذا به يغمغم متأثرًا: «ما أملحكِ!». وشعر بأنه لم يكن قط أدخَل في خلائق الحديقة منه في هذه اللحظة. وأن الورد والياسمين والقرنفل والعصافير واليمام ونفسه نغمة واحدة. وقال لنفسه: «أميمة مليحة، حتى شفتاها الغليظتان مليحتان، وجميع إخوتي متزوجون عدا إدريس المتكبر، وما أشبه لونها بلوني! وما أجمل منظر ظلها وهو مفروش في ظلي كأنه جزء من جسدي المضطرب بالرغبات! ولن يسخر أبي من اختياري وإلا فكيف جاز له أن يتزوج من أمي؟!».

أولاد حارتناحيث تعيش القصص. اكتشف الآن