"ونستقي المر من كأسِ الحياةِ بلا توقُّف♡"

42 7 8
                                    


إنسان بعد الواحدة

بقلم: رحاب يعقوب (مُور فِـيـنَا)

الحلقة الأُولى

"ونستقي المُر من كأسِ الحياة بلا توقُّف"

"النداءُ الأخير، ستقلع الطائرة المُتجهة نحو المملكة العربية السعودية، على جميع الرُكاب على متن الطائرة الاستعداد وربط أحزمة الأمان وإغلاق الأجهزة الجوَّالة"

هكذا وبلهجةٍ إنجليزية جاء هذا النداء قبل أن تنطلقَ الطائرة في رحلتها بين الغُيوم، جلستُ أفكّر وأجوبُ أفكاري: "يا تُرى من أنا؟ لمَ لا أذكر من أنا؟ لأي عائلة أنتمي وأي مدرسةٍ درستُ بها؟..." الحقيقة أنا لا أذكر غير أنّني شخصٌ مُتيم بالسفر، ومليءٌ بالثغرات التي أبحث عمّا قد يسدّها في هذا العالم البائس، لذا أنا الآن على متنِ هذه الطائرة لربّما.

"مرحبًا"
جاءني هذا الصوتُ الأنثوي الرقيق من الكُرسي المجاور، حانت منّي التفاتةٌ سريعة نحوها؛ فإذا بي أرَى جنّةً على هيأةِ فتاة، عطرها الصارخ الذي دغدغ أنفي جعلني أشعر أنّها مخلوقةٌ من رحم زهرة، وعيناها الزرقاوتين تبدو سماءً تناثر السحاب حوله واحتضنته، أهل هذه بشرٌ مثلنا؟... داهمت أحاديثُ الهوى بداخلي بتلويحةٍ من يدها وابتسامة أفلحت أن تخترقني بها:
_  مرحبًا.. هل تسمعني؟

قالتها بلهجةٍ إنجليزية طلقة ومكلَّلة بالفتنة، أجبتُ وأنا أحاول صرف نظري عنها:

= أجل.. مرحبًا
_ كيف حالك؟
= بخير
_ رأيتك مهمومًا بعضَ الشيء فأحببتُ أن اسألك.
= أوو.. هل تجلسين هُنا منذ لحظة الركوب؟
_ أجل

سحقًا، كانت تجلسُ بجانبي منذ بدايةِ الرحلة ولم انتبه لها؟ كيف لفتاةٍ سماويّة الوجه مثلها أن تسأل عن شخصٍ مثلي؟ أهل أبدو مميّزًا أم أنني مثير للشفقة كعادتي؟ بدأت الشكوك والتساؤلات تُمطر على عقلي مطرًا؛ فالمصابُ بلعنةِ الريبة لا يُشفى، والثقة المُنهزمة ستبقى دومًا وحلُ المشاعر الذي لا منجاة منه، وجدتُ فضولي يقتادني نحو سؤالها، لا أعلم لم يحدث معي هذا في هذه اللحظة؛ سألتها بلا مقدِّمات:

_ هل أنتِ من النمسا؟
= لا أنا من تركيا.
_ هه، كنت متأكِّدًا.
= عفوًا، ماذا تعني؟
_ انسي لا شيء.
= حسنًا، أنت من النمسا صحيح؟

أومأتُ برأسي مُشيرًا للإيجاب واكتفيت بذلك...

= أوه، لم تتجهُ نحو المملكة؟ هل أنت مسلم؟
_ وهل بالضرورة أن أكون مسلمًا؟
= لا لم أقصد ذلك.
_ حسنًا.
= لا أريد ازعاجك، ولكن حدِّثني، ماذا يجول بخاطرك الآن؟

تبًّا ما بها هذه الفتاة كثيرةُ السؤال، يبدو أنَّها لا تعلمُ أنّه لا بدّ أن لا تسأل شخصًا مغمورٌ بالريبة مثلي؛ فإنه وإن بدا أنّ منبع البراءة هو عينيها ونبرةُ صوتها، لكنّي مؤمنٌ
أن الخداع ما ارتدى إلَّا ثوب الطيبة، تنهّدتُ وقلتُ عبارةً تجسَّدت حياتي فيها:

_ خواطرنا لا تنجُ من التفكير المُظلم، ونستقي المُر من كأسِ الحياةِ بلا توقُّف.

سيطرَ الصمتُ بعد هذه العبارة على الجو المحيط بنا لفترةٍ طويلة، لا أدري كم قدرها، لكنّها طويلةٌ جدًا تمنيّتُ بعدها أن أسمعَ صوتها ولو لمرَّة، وكنتُ أحاول أن أختطف نظرةً منها في كلّ حين ولكنني أجبنُ من أن أفعل ذلك، مر الوقتُ بين ألمٍ وألم، لقد قضينا يومًا كاملًا على متنِ هذه الطائرة، تمنيتُ لو أنه قرن لأنظر لها وهِي نائمة كنرجسٍ في حُضن الأحلام، لأوَّل مرّة اتأمّل شخصًا هكذا، وجنتيها ممتلئتان كطفلين زائدين في الوزن، أهدابها تُنافسان البحر في غزارتهما، امرأةٌ كان لوجهها من اللمساتِ الملائكيّة نصيب، لا أعتقد أن لغيرها هذا النصيب، قضيتُ الوقت أتتبّع قسماتها النائمة وأرسمها في لوحة ذاكرتي؛ فبالكادِ لستُ محظوظًا لألتقي بها مرَّة أخرى، فاجئني نداءُ الاستعداد لهبوطِ الطائرة، أوه لا! متى أقلعنا حتّى تهبط الطائرة؟ ما هذا أكان هذا سفرٌ أم رحلةٌ من منزلي للجامعة؟ استيقظت وهي تتثاءبُ على حسِّ هذا النداء، تغلق فمها بأصابعها الرقيقةِ كقطعة البسكوت، ثمّ تبتسمُ تلك الابتسامة مجددًا وكأنّها تقصدُ أن تجعل مشاعري تضطربُ بهذه الطريقة:

_ مرحبًا، صباحُ الخير.
= صباح النور، ستهبط الطائرة.
_ حقًا؟

تحوَّلت ملامحها المُبتسمة إلى متوتّرة فورًا بعد هذا السؤال، جعلني هذا أشعر بأنّها أيضًا لا ترغبُ في أن تنتهِ هذه الرحلة مثلي، قبل أن اسألها شعرتُ بأننا نتجه نحو الأسفل بقوَّة، مم جعلني أغمض عيني، وبعد مُدَّةٍ لا أعلمُ قدرها فتحتُ عيني على هبوط الطائرة وترجل المسافرين على متنها، جمعتُ قواي لأنزل، وربَّما كُنّا آخر النازلين، أردتُ الاسراعَ للدخول إلى المطار دون أن التفت لها، ولكن...

يُتَّبع.

#صلِّ على النبي
#البداية ♡

إنسان بعد الواحدةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن