1

0 1 0
                                    

هل يوجد أروع مِن عطلة مفتوحة في باريس؟ في مدينة الحُب المبهجة يوم رأس السنة؟
حتى وإن كان قلبك فارغًا فـستقع في عشق أي شيء، ولو كان فنجانًا مِن القهوة!
ها أنا ذا أسير بخطواتٍ واثقة خارج مطار باريس لأخذ سيارة أجرة إلى فندق قريب سيكون منزلي طوال تلك الرحلة. لم يستغرق الأمر دقائق حتى وصلت وقد كان المكان رائعًا، رائعًا جدًا، ولكن هل هناك شيء في باريس ليس بـرائع يا عزيزي؟

ما إن دلفت إلى غرفة الفندق، رميت بجسدي فوق السرير المريح وغطتُ في نومٍ عميق، لم ييقظني منه سوى إهتزاز هاتفي بجانبي فـنهضت منزعجة من قطع قيلولتي، ولم يكن المتصل سوى ميار صديقتي الوحيده تقريبًا هي و ليلى، فـأنا لا أختلط بالأُناس كثيرًا ودائمًا ما أضع حدود مع مَن أحادثه؛ فـلم أستطيع تكوين صداقات كثيرة. وكانت علاقاتي البسيطة تلك تكفيني على أيّ حال. 
أخبرتني أنها وبمزيد من الإلحاح وافقت والدتها على سفرها معي تلك الرحلة بمفردنا بينما لم يوافق خطيب ليلى على مجيئها، وأخبرتني أيضًا أنها ستلحق بي في الطائرة القادمة. أسرني الخبر كثيرًا فـعلى الأقل لن أبقَ بمفردي هنا. كان شعوري حين خطوت أول خطواتٍ لي هنا منذ بضع ساعات- أني في مدينة لا أعرف بها أحدًا- غريبًا وموحشًا. على الأقل في بلدتي ورغم صداقاتي القليلة جدًا كنت أشعر بالألفه لوجودي في وطني، ولكن الآن ورغم حبي الشديد لـباريس انتابني شعور بالخوف والغرابة.
بدلت ثيابي ببجامة مريحة وجلست أنتظرها وأنا أفكر في أن الله سلب مني أمي وأنعم عليّ بـأبٍ يملك حنان العالم، كما أني لم يكن لي إخوه ورزقني الله بصديقتان كانا لي أكثر من أختان يحتويا فؤادي ويعالجا ندوب روحي. بينما حُرمت ميار من أمان والدها وعوضها الله بحبيبٍ رغم أنه لا يشعر بمشاعرها إتجاه إلا أنه كان أكثر من سندٍ لها. فـحمدتُ الله على رفقه بنا وعوضه الدائم، وأخدت أقرأ رواية لـــ أجاثا كريستي كي أُمرر الوقت.
شعرت بالملل بعد مرور نصف ساعة؛فـقررت ألا أُضيع يومي بين هذه الجدران. ومع علمي أنها لن تصل الآن، نهضت ونظرت مِن شرفة الغرفة وبدت الطلة رائعة؛ فـأسرعت وتجهزت لأتجول في شوارع باريس الخاطفة.

شعرت ببعض الجوع مع سيري الطويل في الشوارع فـتوجهت إلى أول مطعم وجدته أمامي ولـحسن حظي كان رائعًا. تناولت عشائي وطلبت قهوتي ثم رحلت. ظللت أتجول في الشوارع بإستمتاع إلى أن أصبحت الساعة الثانية عشر إلا عشرون دقيقة وهذا يعني أننا على مشارف العام الجديد. أخرجت هاتفي وحاولت الإتصال عليها ولم يكن هناك إرسال، فـإطمأننت مع إدراكِ أنها في الطائرة ولم تغير رأيها. وتمنيت لو حصلت معجزة ما و وجدتها هنا الآن حتى لا أحتفل وحدي. وكما نعلم لا تحدث المعجزات بـهذه البساطة! فتوجهت وحدي إلى برج ايفل لأُشاهد الإحتفالات. معظم مَن كانوا هناك كانوا مِن العُشاق، ولكني كُنت بمفردي، لم يؤلمني كوني وحيدة حقًا ولكني تخيلت ذاتي مع شخص ما، شعرتُ بدفء الفكرة وتمنيت لو كنت أعيشها الآن ولكني ذكرت نفسي بضريبة الحب _ الألم، لم أكن على إستعداد لـخوض التجربة، لم أكن أريد أن أسقط الآن! خشيت أن تأتي الرياح بِمَ لا تشتهي السُفن كما هي العادة، ولن يكن بيدي حيلة وقتها فـقلوبنا ليست ملكنا!
بدأ العد التنازلي لبداية العام الجديد، وجدت أحدهم يقترب مني ويقف إلى جواري، نظرت إليه في إستفهام فـقال بـلكنة فرنسية رائعة:
_ عذرًا، ولكن كانت إحدى أهدافي السنة الماضية ألا يبدأ العالم الجديد وأنا بمفردي، يمكنني التحايل على نفسي بعض الشيء، هل يزعجك إن وقفت بـجانبك لبضع الوقت فقط؟
هززت رأسي علامة على الموافقة ولم أظهر أهتمامي بيه وأخذت أنسى تدريجًا أن أحدًا ما يقف بجانبي.
إنتهت الإحتفالات الرائعة. إلتفت فـوجدته ما زال موجودًا، إبتسم وشكرني فـشكرته في المقابل فـقال في مزاح بـلكنة فرنسية:
_ سأراكِ مجددًا لعِلمك!
_ ومن أين أتيت بهذا اليقين؟!
ضحك على اندهاشي فـظهرت خطوط إبتسامته وضاقت عينيه قليلًا ثم قال بلجهة عربية هذه المرة:
_ لستِ من الأشخاص العابرين، على الأقل لن يكون هذا آخر لقاء لنا!
لم أتعجب كثيرًا من كونه عربيّ؛ فـملامحه شرقية جذابة بتلك العيون البنية الداكنة والبشرة القمحاوية والشعر الأسود اللامع. ولم أتسائل من أين أدرك أنني عربية أو أتحدث اللغة العربية على الأقل؛ فـملامحي أيضًا شرقية. ما كان يشغل بالي حقًا هو ما قاله! ما هذا الهراء؟!
_ ومن أين علمت؟!
_ حدسي يخبرني بذلك
_ لا تسير وراء حدسك؛ لـربما يضعك في مأزق!
_ أأعتبر هذا تهديد؟ - قال بينما إبتسامته تنير وجهه.
هززت كتفي بلا مبالاة
_ لا، مجرد نصيحة فقط
_ أنا سعيد بتلك الصدفة التي جمعتنا حقًا
_ لا يوجد ما يسمى صدفة؛ فـكل ما يحدث مرتب ومحدد لك من قبل مجيئك للعالم أصلًا
_ لا بأس، هل مسمى قدر جيد؟
ابتسمت راضيه
_ نعم، جيد جدًا
نظر لي وابتسم
_ إذًا متى سأراكِ مجددًا؟ أم تحبين أن نتركها بلا ترتيب؟
_ لن تراني ولن أراك! - قلت ببعض العصبية.
إقترب بخطواتٍ متأنيه واضعًا يداه في جيوبه بـثقة فأصبح بـمواجهتي مباشرة
_ أتحداكِ إن العام الجديد الذي بدأ ونحن نقف هنا بجانب بعضنا، سينتهي ونحن بجانب بعضنا أيضًا - همس.
_ هراء! - قلتُ مصطنعة الا مبالاة بينما غمرتني مشاعر الإضطراب.
إلتفت سريعًا وأخذتُ أسير بخطى حثيثة بينما قررت أن أتحد القدر وأن لا ارضخ له. إتجهت إلى الفندق مباشرة ودلفت إلى غرفتي من جديد.
أستيقظت بعد ساعتين وأنا أخشى أن أجده أمامي بعد أن رأيته في حلمي! ولحظي الجيد لم يكن هنا. امعنت النظر في تلك الفكرة المجنونة وأخذتُ أسخر من نفسي، وكيف له أن يأتي إلى هنا من الأساس؟!
جلست على طرف السرير وفي يدي كوب من القهوة الساخنة بينما أخذت أخط أول سطور روايتي، والتي كانت بيها البطلة رسامة ماهرة ترسم أحلامها وتغوص في عوالم أخرى تستخرج الفن الراقي لتهديه للبشرية وقد وقع قلبها أسيرًا لذلك "المغنواتي" على شاطئ البحر، فأصبحت أمانيها وأحلامها تتغير وتترتب لتصبح أعظمهم أن تكون له ويكون لها.
توقفت عن الكتابة بعدما اجتاحني شعور بالملل والوحدة وكرهت تأخر ميار كل هذا الوقت. نهضت وكدتُ أغير ملابسي لأترجل خارجًا ولكني توقفت وتذكرت قراري منذ قليل؛ فجلست كما كنت أحاول إستعادة النوم، وقد كان الوقت متأخرًا على أي حال.

ربماحيث تعيش القصص. اكتشف الآن