إنتهى اليوم بتنزهنا في حديقة التويلري الجميلة، وعندما عدنا لم أستطيع منع نفسي من محادثته أو رؤيته؛ فـدلفت إلى الشرفة بينما كانت ميار تغير ملابسها، ولكني لم أجده! وقفت قرابة الخمس دقائق ثم رأيت ظله على الستائر؛ فـتصنعت أنني أتأمل برج ايفل على الجهة الأخرى بينما لمحت إبتسامة خبيثة ترتسم على ثغره - مرحبًا بـشبيهة القمر! - قال.
حاولت رسم علامات التفاجؤ على وجهي وإلتفت له
- أوه مرحبًا! لم ألحظ وجودك، أكنت تقف منذ وقت طويل؟
- كلا، جئت لتوي
- جيد، كيف حالك؟
- بخير، وماذا عنكِ؟
- في أفضل حال
- رائع هذا يسرني حقًا!
لمحت كتابًا في يده فـقلت في فضول:
- أكنت تقرأ؟
- أجل، إنها رواية للرائع هاروكي موراكامي، تُدعى كافكا على الشاطئ
- أعرفها. قرأتها من قبل وأحببتها كثيرًا
- ذوقنا واحد في القراءه إذًا- ابتسم وقال - بالرغم من إختلاف بعض وجهات النظر لدينا!
ابتسمت في المقابل
- الكُتب تغير الكثير في القارئ بلا شك، لكنها ليست بذات التأثير على جميع القُراء. في النهاية لكل واحد شخصية مختلفة
- ولكن الكُتب تبني الشخصية أيضًا لا تنسِ ذلك
- هذا صحيح، ولكن ليس من الضروري أن يقرأ أحد كتابك هذا ويكون قد قرأ ذات الكُتب السابق لك قرأتها جميعًا!
أومأ موافقًا
- فُزتِ عليَّ تلك المرة، كنت قد نسيت تلك التفصيلة - قال بنبرة لطيفه- يبدو أن عزيزتي الكاتبة هي قارئة ممتازة أيضًا!
- من العبث أن يكون المرأ كاتبًا بلا أن يقرأ! - قلت في شيء من الخجل.
- صحيح هل أقتربتِ من إنهاء روايتك؟
- لا، لم أكتب فيها منذ يومان
- لِمَ؟ هيا أنهيها بسرعة فـأنا أتشوق لقرأتها!
ابتسمت.
- يذكرني حماسك هذا بحماس صديقتاي عند كتابتي أول رواية لي!
- حديثنا المرة السابقة هو مَن شوقني، ولا تنسِ أن أول نسخة لي
- حسنًا، لكني أشك أنها ستروق لك؛ فـهي رواية من النوع الرومانسي ولا يبدو أنك تميل لهذا النوع من الروايات
نظر في عيني مباشرة وقال بنبرة حانية:
- منذ قابلت إحدهن ولم يعد يفرق ما أميل إليه، بتُ أميل تلقائيًا لِمَ تحب هي.
اضطرابت من نظره في عيني بـهذه الطريقة فـأخفضت وجههي لأسفل
- يبدو أنك عاشق لا ريب! - قلت.
- ربما، لكني لم أتأكد من مشاعرها لي حتى الآن
قلت بصوت متهدج وقد تسلل الحزن إلى قلبي ليمزقه إلى أشلاء
- العيون لا تكذب أبدًا
ثم دلفت للغرفة مسرعة وقد كادت دموعي أن تخونني أمامه فـرميت بجسدي على السرير وعانقت وسادتي بقوة وكأني أُفرغ بيها ما بجعبتي من حزن أحتل قلبي خلال ثواني قليلة وطرد السعادة التي كانت تقيم حفلًا فيه منذ قليل!
تُرى مَن تكون تلك الفتاة؟!أستيقظت في الصباح التالي ونهضت ببعض الخمول، ويا للعجب فــ ميار لم تكن نائمة أخيرًا!
قُرع الباب بوهن فـنظرت لــها لتفتح ولكنها قالت متوجهه إلى المرحاض
- أفتحي أنتِ فـأنا ســأستحم!
تأفأفت وعدلت من هندامي قبل أن أتجهه إلى الباب وأفتح..
لم يكن هناك أحد فـنظرت حولي متعجبة قبل أن ألمح شيئًا ما على الأرض. إنحنيت وأمسكت به، وجدت أنها زهرة الكاميليا البيضاء التي أعشقها ومعلق بيها ورقة صغيرة كُتب عليها بخط منظم وجميل «صباح الخير يا شبيهة القمر، أردتُ إخبارك أن لا تتسرعي مجددًا، فـأحدهم قال ذات مرة يا جميلتي: "التسرع جيد فقط في اصطياد البراغيث". »
تعجبت من تلك الكلمات، لقد عرفت صاحبها على الفور، ولكن ما لم أكن أعرفه «أكنت تلك الزهرة صدفة أم إنه يعرف بطريقةٍ ما ماذا أحب؟»
كدتُ أتجه إلى الشرفة لأسأله ولكني تراجعت، تذكرت حديثه ليلة أمس عن تلك الفتاة وبدأت تراودني بعض الخواطر أنني مَن يقصد مع كلماته تلك، ولكني نفضتها عن عقلي سريعًا حتى لا أتعلق بقشة صغيرة في بحرٍ واسع لن تنجيني مهما حاولت. ولكني لم أستطيع ابعادها عن ذلك الضعيف الذي أخذ ينبض بقوة وقد بثت فيه خواطري أملًا إن لم يكن حقيقيًا سيتمزق إلى أشلاء وأغرق في بحرٍ عميق من الألم.
جلست على السرير وأخذت أتأمل تلك الزهرة الساحرة. تحسست أوراقها برفق ثم شممتها فـأعطت لنفسي نوعًا من الطمأنينة. سمعت حمحمة خافتة فـإلتفت لأجد ميار قد أنهت حمامها.
- لِمَ تجلسين هكذا؟ مَن كان الطارق؟ - سألت بفضول.
نهضت و وضعت الزهرة في إحدى الكتب وقلت لها بهدوء:
- لا أحد! كانت تلك الزهرة ورسالة من أحدهم
- يبدو أن لكِ معجبًا غامضًا!
- لا، أعتقد أنها من حازم - إبتسمت.
- إذًا هو المعجب؟ - قالت بخبث.
- كُفي عن الهراء يا فتاة! -قلت في خجل- تُرى لِمَ أختار تلك الزهرة بالتحديد؟
- أذهبي واسأليه
- شعرت بالحرج ولم أُرد أن يراني أنتظره مجددًا
فكرت برهة ثم قالت:
- إذًا ترجلي في وقت الغداء إلى مقهى الفندق فـقد مر موعد الإفطار وأظنه سيتناول غداءه هناك، هكذا لن تنتظريه أنتِ
- وماذا إن لم يأتي أصلًا؟ ربما يتناول غداءه في مكان آخر أو يطهو بنفسه!
- أذهبي فحسب، لقد إلتقيتم مرات عديدة بتلك الطريقة ورتبها الله لكما، فما الفرق بتلك المرة؟
قلت وعيناي معلقتان بالشرفة:
- حسنًا، ربما أنتِ على حق
ذهبت ميار تحضر لنا إفطارًا بعد أن فوتنا موعد الإفطار في الفندق. وجلست أنا أكمل روايتي وقد قررت أن أُنهيها قبل عودتي من تلك الرحلة، وعندما إندمجت أخيرًا وأخذ عقلي يضخ أحداث وأفكار رائعة، رن هاتفي فإنقطع سيل أفكاري. تأفأفت في إنزعاج ولكنه سريعًا ما مُحى ما إن وجدت اسم أبي يُزين الهاتف وإحتلت ثغري إبتسامة سعيدة!
- مرحبًا بـوالدي العزيز، لقد افتقدتك كثيرًا!
جاءني صوته الحنون الذي يبث في روحي الطمأنينة قائلًا:
- وأنتِ أيضًا. تبًا لـتلك الرحلة لا أُطيق المنزل بدونك!
- لا تقلق فـأنا سأعود قريبًا إن شاء الله
- هناك مَن يريد محادثتك! - قال.
وسريعًا ما تناهى إلى سمعي صوت أنثوي أعرفه جيدًا
- افتقدتك كثيرًا يا أختاه، كيف حالك؟ -قالت ليلى.
- بخير، اشتقت لحديثنا الطويل يا ليلى
- عندما تعودا لن نكف عن الحديث، ولكن هيا أسرعا، اشتقت لكما
- لحظة سأخبر كسولتنا أنك تكرمتي وهاتفتينا!
ضحكت موافقة فـأخبرتُ ميار التي أتت وهي تمسك بأطباق الفطور و وضعتها على الطاولة ثم جلست تأكل وهي تتحدث مع ليلى التي علقت في ضحك:
- أتأكلان الآن أيها الكسولتان، إنها الحادية عشرة صباحًا!
- كلا هناك فارق في التوقيت، هنا الساعة العاشرة صباحًا فقط! - قالت ميار.
- حسنًا، فوتما موعد الإفطار أيضًا، لا تأكلا وأنا أحادثكما!
- الخطأ خطئك مَن قال لكِ أن تتصلي في وقت إفطارنا؟ - قلت في مزاح.
- ألقي اللوم على يوسف لا عليّ! هو مَن تأخر عن عمله وكذلك لم يجعلي أتي إلى هنا وحدي وأصر على توصيلي..
توقفت ميار عن المضغ وسكنت للحظات وكذلك صمتت ليلى وكأنهما يخفيان عني شيء ما، فـقلت بعد برهة:
- لا أعلم لِمَ تجعلينه يتحكم فيكِ بهذا الشكل! ما زال خطيبك يا فتاة ولديكِ والدين هما المسؤلان عنكِ لا هو!
تنحنحت ميار ثم قالت بنبرة هادية وإبتسامة مصطنعة:
- لأنها بلا كرامة يا صديقتي
قالت ليلى ببعض الإنفعال:
- لستُ بلا كرامة يا حمقاء! هو خطيبي وزوجي المستقبلي.. وأنا أحبه، من الطبيعي أن أُطيعه ما دما لا يؤذيني!
- بل يود التحكم فيكِ، حتى وإن كان زوجك لا يحق له أن يجعلك دمية! - قالت ميار.
كادت ليلى أن تجبها فـقلتُ لأنهي تلك المعركة التي على وشك الحدوث
- كفى يا رفاق!
ثم أردفت مبتسمة:
- أأخبرتك عن حازم من قبل يا ليلى؟
- كلا، مَن هذا؟
سردت لها جميع ما مررنا بيه وعاونتني ميار في ذلك بحماس وأخذنا نضحك ونثرثر في جو من المرح