بدا للخيطِ الأبيضِ مِن الفجرِ بيانٌ في سماء أحد بَوادِي شبهِ الجزيرةِ العربيةِ ، لا زالتْ آنذاك السّماءُ مُتبرّجةً بالنّجومِ ، ولم يشَأ القمرُ الزوالَ بعدُ .
حَزَمَ شابٌ فَتِيٌّ أعرابِيٌّ أمتِعَتَهُ و زادَهُ مُتهِيّئًا لِلسَفَرِ ، وركِبَ الحِصانَ ، ولكِن لمّا رأىٰ تلك الشيخةَ المُسِنّةَ قد خرجَت من بين الخِيامِ ؛ أزاحَ اللّثامَ ونزلَ عن ظهرِ الفرسِ ، وراحَ يُخبِّئ كفّيها بين كفيهِ تارةً ويقبّلهما تارةً أخرىٰ
" وا أمّاهُ ، ما يصيبُ فؤادَكِ من وَصَبٍ يُصِيبُني ، فَكُفّي استحلفتُكِ بفاطِرِ السّماواتِ "
شقّ الدمعُ مجراهُ على حدّ تِلك الشيخةِ ، وارتعشتْ يديها المُجعّدةُ ، وأخفضَت رأسَها للأرضِ تبثّ وتشتكي ما أكنّ الفؤادُ
" أبُنيَّ ، إنّي لأخشىٰ عليكَ مِن جُورِ الغُربةِ وَوِحشتِها ، مَن يأتيكَ بما يُشبِعك ويضُبّ أحشاءَك؟ ، يا وَلَدي تالله إن الموتَ عليّ لأهونُ من يومٍ لا لُقيا لكَ فيهِ ".
أقطَبَ الشابّ حاجِبيهِ وفاضَتْ المدامِعُ ، وارتجفَت شفاهُهُ بقولٍ صدحَ في رأسِ أمّهِ
" استبشِرِي يا أمّيمَتي بالخيرِ! ، فواللهِ ما وكّل الله عبدًا لِنفسهِ يومًا طَرفةَ عينٍ ".
وبعدَ وداعٍ يُدمِي القلبَ ، شرعَ بركوبِ الفرسِ وهَمّ لِيقصِدَ صويحِبُنا هَيثمُ ذو السبعةِ عشرَ عامًا بلادَ الأندَلُسِ وتحديدًا قُرطُبَةَ دارَ العُلومِ ، ابتِغاءً للعلمِ والتّفَقُّهِ ، تارِكًا أخاهُ الأصغرَ سِنًا مِنهُ وأُخَيّتَهُ الأكبرَ وأمَّهُ ..
أنت تقرأ
بينَ قصورِ قُرطُبَة
Nezařaditelné" فِي عينيكِ تُختَزلُ قصائدِ العروبةِ جمعاء ، ومُحيّاكِ كضيّ القمرِ حُسنًا مِيعادَ الفجرِ ، لِتحِلّ رأفةٌ مِنكِ علىٰ أُهِيلٍ من الحيّ ، فهو كحَالِ أمّ مُوسىٰ يُبيّتُ الفؤادَ فارِغًا ، يُسكِنُ اللوعاتِ مُستأمِلًا بربطٍ إلٰهيٍ مُنتَظرٍ ، فإن رددتِ ؛...