قطفُ ثمرِ التوتِ

8 1 0
                                    

بعدَ تِرحالٍ دامَ شُهورًا وشهُورًا ،  وطأت  قدمُهُ تُرابَِ أرضَ البلادِ الأندلسيّة ، بعد ما كانت في ذِهنهِ إلا حُلُُمًا ، أو خَيالاً يُنسَجُ ، وآنذاك كان قد نفِذَ مِنه ما أعدّ من زادٍ وماءٍ ، آنَ وصولهِ كان ميعاد العَشيِّ 

فاستطعم أحدَ أهل الديارِ التي حلّ بها ، فضيّفَهُ وأحسَنَ الضيافةَ

" يتضّحُ أنّك قد لاقيتَ مِن سفرِك هذا نَصَبًا يا بُنيّ"
راح أشيبُ الشّعرِ يُخفّفُ عن ضيفهِ ما وَجَدَ ، وناولَهُ كُوبًا مِن اللبنِ وبِضعَ حبّاتِ تمرٍ ضِيافَةَ

" بلىٰ أيّها العمُّ "

وأخذَ يقصّ عليهِ سببَ المَجيئِ وما عاينَ في تِرحالهِ ، وحالَ أمّيمَتِهِ التي يشتعِل فؤادُهُ علىٰ فِراقِها ، وأصابَهُ مِنْ الوَجْدِ ما أصاب ، ولكنّما هذهِ حالُ الدُّنيا فأحبِبْ مَن شِئتَ فإنّك مُفارِقُهُ ، فلا جدوىٰ مِن الارتباطِ بالأشخاصِ والأماكِن .

وبعدَ العشاءِ ، تسامَرا حتى رأىٰ المُضيفُ أيديَ الوَسَنِ تأخذُ بعيني هيثمَ إليها ، فَتَركَهُ لِيخلُدَ إلىٰ النّومِ

هيثمُ شابٌ قوِيّ البُنيةِ الجَسَدِيّةِ ، شديدُ سوادٌ عينهِ ، كثيفُ الشعرِ فحمِيّ اللونِ ، كثيفةٌ لحيتهُ مُهَذّبَةٌ ، حِنطِيّ البشرةِ ، مليحُ الوجهِ ، عريضُ المَنكَبينِ ضخْمٌ ، فصيحٌ لِسانُهُ طلِقٌ ، حَسّنَ اللهُ لهُ خُلُقَهُ وأدّبَهُ .

وقد ألقىٰ الله عليهِ المَحبّةَ والقَبولَ ، فَراقَ للمُضيفِ ما اتّصف بهِ ضيفهُ ، وبعد بَياتٍ دام ثلاثَ لَيالٍ ، لما هيثمُ قد أوشكَ على حزمِ أمتعتهِ ، عرضَ الرجلُ عليهِ العَمَل عِندَهُ في فلاحةِ حقول التوتِ ، لرعاية شرانقِ دودةِ القزّ التي تُنتِجُ الحَريرَ ، وهذا ما اشتهرت به الأندلُس سَلَفًا

ابتهجَتْ نفسُ صويحِبِنا بهذهِ المِنَنِ الإلٰهِيّة ، فوافَقَ علىٰ مَا عُرِضَ عَليهِ  وباشَرَ عملَهُ في اليومِ الرابعِ مِن حلولِهِ في البلادِ

وبُكرَةَ اليومِ  دخل البساتينَ وبَدَت كما لو أنّها جِنانُ السّماءِ ، فحبّةُ التوتِ شديدةُ الحُمرةِ ريّانَةٌ ، كان ميعادُ الحصادِ قد حَلّ فهو المُنتَصفُ مِنْ أيلول

فأخذ هو ومن معهُ بجَنْيِ الفاكِهةِ ويملأُ بالتوتِ السِلالَ ، حتّىٰ غَدَتْ أيدِيهُم مُِصطِبِغَةً بِصبغةٍ حمراءٍ

فألقى نظرةً على باطِنِ كفّهِ وأخرىٰ إلى من صاحَبَهُ العملَ فقهقهَا وراح بعضُهُما يمازِحُ الآخرَ مُصيبًا وجه صاحِبهِ بتلك الحُمرةِ ، لعِبا حتى تشبّعَ ثوبيهُما ذوا اللون الأبيض حَمَارًا ، فبديا كالمُضّحِي عيدَ الأضحىٰ

استلقيا على حشائشِ البُستانِ ضُحَىً يُذهِبانِ التَعَبِ عن جسديِهما ، فضحِكَ هيثمُ حتى بانَت أنيابهُ وحدّثَ صاحِبَهُ بامتِنانٍ فيّاضٍ بادٍ في الأعيُنِ بعدمَا قد سرىٰ بكلِ شِبرٍ في الجسدِ

" فداءَ الدّينِ ، لا أدري أيُّ هِبَةٍ أنتَ إياك وهبني الله ، وأيّ إحسانٍ أحسنَ والدُكَ إليّ ، جُزِيتُما خَيرًا وبُورِكْتُما .

ضمّني  إليهِ وأكرمَني بعدما كُنتُ جَوعَانًا ، مُرهَقًا ، لا مأوىٰ لِي "


غير المُخاطَبُ - أي فِداءُ الدّينِ - من وضع جسدهِ فقعدَ ، وأرجعَ بعضًا من خُصُلاتِ شعرهِ الذّهبيةِ خلفَ أذنهِ وأردفَ على قولِ صاحبهِ

" هذا جزاءٌ وِفاقٌ ، ما ساقَك الله لهذهِ الأرضِ ولا لديارِنا إلا لعلمِه بِحُسنِ سريرتِك ، ولا أظنُّ أبي كان لِيفوّتَك "

عجزَ هيثمُ عن ردٍّ يتلو ردَ هذا الأشقرِ ، فسألَ الله أن يكونَ كفِيئًا عِندَ حُسنِ ظنِّ ربّ عملهِ  .

عِندَ زوالِ الشّمسِ مِن كَبِدِ السّماءِ وميولِها إلى الغربِ ، في الظهيرةِ عادا إلى الدّارِ 

دخَلَ فِداءٌ على أهلهِ - أمّهِ وأخيتِهِ - وذرأ صاحِبَهُ خارجًا في الباحةِ ينتظِرهُ ، حِينما وَلَجَ لمْ يجِدْ سِوىٰ أمَّهُ وخادِمَهُم ، فلمْ يُعطِ للأمرِ اهتِمامًا بالِغًا ، فعسىٰ أختهُ ترتَعُ في حُجرَتِها ، إلى أن خرجَ وبيدِهِ يحمِلُ الطّعامَ ، فانعقد حاجِباهُ لمّا رأىٰ ما رأىٰ مِنها وارتجفَتْ الأطباقُ في يديهِ حتى انسكبَ شيئٌ مِنها - مِن فرطِ غضبهِ الذي اهتاجَ - وزجرَ بِها مُوبّخًا

" ماذا أنتِ فاعِلةٌ هُنا ؟! "



لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: May 08 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

بينَ قصورِ قُرطُبَة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن