نفحة باردة، عندما فتحت الباب استقبلتني مع الظلام الساكن للأماكن المتروكة، وبسرعة وقودها الوجل، تهمست مستعيناً بذاكرتي، الحائط البارد والمغبر على بعد شهرين أو أكثر من مقبض الباب لأجد زر النور..
أشعلتهُ وفاض عن المصباح ضوء أصفر غسقي كئيباً، عدة خطوات، ووجدت نفسي أمام، الدولاب الخشبي الكبيرة، المقفل والمهيب كقبر مومياء، في الغرفة التي تستعملها أمي كمستودع يضم: بسط، سجاد، أواني زجاجية، فضية، شراشف، ملاءات، ملابس حسب تغير الفصول، أحذية، ألعاب، أدوات منزلية معطلة، وأخرى انتفت الحاجة إليها، لكن بحسب قانون أمي:
لا شيء يصلح للرمي حتى الأشياء غير النافعة، ليس لهواية، أو لبخل تتمسك بالخردة الصدئة والخرق القديمة، إنما لرغبة خجولة بحبس أزمنة عزيزة غابرة داخل هذهِ الجدران، لتعود إليها من حين إلى حين؛ اكتشفت ذلك مرة عندما رأيتها ترجعُ شابة في إحدى حملات (التنظيف) إذ وجدت في أحد الأكياس في الدولاب ثوباً أبيضاً من مخمل، أرهقته السنون؛ فراحت تنشره، معاينة تفاصيله البسيطة والأنيقة، وبحركة خاطفة مثل وميض أدارت الثوب على الوجه، وسوت أكتافه على كتفيها، وبغنج صبية راحت تمشي، أمام المرآة، والدانتيلات تتراقص معها مثل سرب فراشات، للحظة توقفت، ألصقت الثوب بجسدها، التطاريز الدقيقة لم تلائم جسدها الذي شوهناهُ أنا، وأخي وأشغال البيت والسنوات التي مثل شظايا زجاج، فصار مترهلاً شاحباً لا يشبه الجسد الذي فصل لهُ ثوب الزفاف هذا.
حينها عقصت الثوب بانفعال، بهت لهُ، وبكت بمرارة، على زمن كان ولن يعود، بكت وهي تضمُ الثوب إلى صدرها وكأن صاحبته ماتت...دوى صوت انفجار آخر اهتزت له الجدران، ومدفوعاً بالواجب الموكل الي عندما صفقت الأبواب، طرباً بالخسارة المعنوية للسكون المؤقت، وأتى عصف الانفجار المهول، بالريح التي ستغادر دون أن تأخذ شيئاً معها.
كانت الساعة تشير إلى دقات كثيرة في الظلمة، الزمن في الظلام مثل الشعر مطلقاً، ولزج، شذرات من رعب ارتسمت على الوجوه التي يفوح الاستفهام منها مثل رائحة طبخة شاي سيلاني أصيل، والأجساد المتراصة المحتمية بالزوايا الأكثر أمانا، بعيداً عن الشبابيك والأبواب في محاولة لرص بقايا الشجاعة المباغتة، لتدبر الموقف. دفن علي رأسه في حجر والدتي كما تدفن النعامة رأسها في الرمل، وراح يبكي بغزارة وكأنهُ لأول مرة يسمع صوت انفجار في حياته.
الأطفال لا يمكن أن يألفوا الحرب حتى وإنّ ولدوا في خضمها؛ لأن قلوبهم الغضة تكون لا تزال نقية، فقط القلوب التي دنستها السنون الغزار بالآثام والنجاسة يمكن أن تألف الحرب.البلدة كلها رُجت، وكأنما ضربها زلزال عنيف، زجاج عدة شبابيك في البيت تكسر، ووسط سيل الممانعات والملحات الراجية من والدتي، خرج والدي إلى الحديقة ليتحرى موقع الانفجار، واثباً بين نثر الزجاج المتكسر، وكسر الخبز والطعام من بقايا العشاء الذي أهمل مثل نشرة علاجية بعد لحظة الانفجار الذي انبجست على أثره زخات الرصاص بطقطقاتها الحادة الشبيهة بطقطقات هطول المطر على سقوف الصفيح، لحقتهُ بسرعة لكن ما كدت أعبر عتبة الباب حتى صاح بي (ارجع) بنبرة صلدة، على عادتهُ عندما يكون متوتراً، رجعتُ على إثرها إلى مكاني، وأغلقتُ الباب تلافياً لصرخة أخرى منهُ، لا تحمد العواقب بعدها. والدي عصبي لدرجة أن تجنبه عندما يكون غاضباً أو متوتراً سنة حسنة أؤجرُ عليها لأنّي لا أُلقي بنفسي إلى تهلكة.
أنت تقرأ
الركض برجل واحدة
Horrorالحرب الموت الدموع الحب الملاك المنقذ الفقد الخوف والندم إستحالة حدوث الممكن هذهِ السطور هي ذاكرتي... ربما اذا قدر لي ان انسى في يومًا ما، سأعود لأقرأ هذه النسخة مني.