كنا في السيارة، نسير بسرعة نيزك يسقط من سماوات عتيدة، في شارع البلدة الرئيسي..البلدة التي جعلت الحرائق المنثورة على جانبي شارعها كأعمدة الإنارة، ودوي الانفجارات المجلجلة، والصراخ الهلع المنتشر مع الهواء المُتْرَع برائحة الموت، والنشيج المكتوم لكائناتٍ مجهولةٍ تُحتضَر، والأمواج البشرية التي تركض مذعورة نحو المجهول، جعلت ليلها الأسود قيامة على ساكنيها...
كنا نسير، ولا أعرف لماذا، نحو ما لاح من بعيد، كأنه وادٍ مشتعل بين بركانين ينزفانِ حممهما بغزارة جرح في الشريان. والدي متخشب كجثة، فاتحًا عينيه على اتساعهما، ويمسك المقود بكلتا يديه. وأنا في المقعد الخلفي، يفتت روحي الخوف؛ كل شيء من حولنا كان يهوي..شررٌ تتطاير من كل مكان.. قذائف لها شكل مذنبات تسقط بغزارة أمطار تشرين.. انفجارات تشنج السمع، وتخلف طنين لا متناهٍ يرص الهلع كحزمة من سهام، ويغرزها عميقاً في بقايا جسد الطمأنينة. الشارع كان هوة قاتمة بلا قرار مع ذلك كنا نسير باتجاه مركز الخراب، وكل شيء يسير عكسنا، السيارات، الناس، الأشجار، البيوت. ولسبب ما كنا نخترق تلك العجقة، دون أن يعرقلنا شيء، أو ندهس على الأقل واحدا من المئات الذين كانوا يركضون في كل مكان بعشوائية، قطيع جواميس مذعور تطاردهُ لبواتٌ جائعات! حاولت الصراخ بأن أنزِلْني أو استدر بي، لنفر كما الجميع من هذا الجحيم الذي يفتح أمامنا أبوابهُ على مصراعيها! لكن ذلك كان أبعد إلي من الأمان المعدوم ساعتها. الحركة هي الأخرى كانت عصية! وكأن مارداً عملاقاً يقيدني، ويكمم الأفواه الصارخة لغريزة البقاء... على جانب الرصيف الأيمن من بعيد، لاحت عدة سيارات..تحترق، برز من إحداها، عندما اقتربنا، عجوزٌ، يرفس كديك مذبوح.. طغت صرخاتُ رجائهِ واحتجاجه اليائس:
(لا..لا أريد الموت).
على كل صوت. تخطيناهم دون أن نخفف السرعة، أو يلتفت أبي إليه حتى، مع أنّي وددتُ لو كان بإمكاني أن أتفلت من المارد المهول، وأطلب منه بداعي إراحة ضميري فقط، أن يقف لننقذ العجوز المسكين.
على بعد مسافة دقيقتين من السيارات المشتعلة. كان هناك شبحان لولد وفتاة، على الرصيف نفسه، الفتاة ممدة جذعها على الأرض، ومن جذعها إلى رأسها في حضن الولد الذي يمسد شعرها بحنو، وهو يحني رأسهُ عليها، ليتأملها، وكأن كل ما يحدث ليس منهما في شيء.
خارج الزمن وخارج هَذِهِ الحلقة المشتعلة، كان هذا أول شيء خطر لي عندما تمعنتُ فيهما وهما جالسان هكذا، بكل تلك الوداعة والطمأنينة وسط العالم الذين ينهار حولهما، أو قد يكونان أرواحاً زهقت، توا لعاشقين كانا في لجة خمرة الهيام، وأكون أنا الآخر قد متُ مثلهما، لهذا أراهما أو أنهما يئسا من النجاة، فقررا أن يعيشا آخر لحظاتها معاً كما يحبان..معزولان بقوقعة غير مرئية عن الجحيم الذي ينثر أحشاءهُ في كل مكان، ويفجر بارود الهلع في كل شيءٍ ما عداهما.. هكذا بطمأنينة زاهدٍ صوفي، ينتظران النهاية الحتمية بلا وجل. ألف احتمال ورد في رأسي لسبب بقائهما، وكل الاحتمالات بالمجمل مستحيلة، وغير منطقية، إلاّ احتمال أن أكون قد متُ، وغدوت قادراً على رؤية الأموات. عندما صرنا أمامها لم تتغير حركتهما التي بدت ميكانيكية، أشبه بحركة ساعة، هو يمرر يده على شعرها من بداية جبينها إلى حد كتفها، ويعيد يده، دون أن يرفعها بخفة، وبطء شاعري، وكأنهُ يرسم. وهي تشع بابتسامة طفولية شفافة. وعلى وجهه وهو يطالعها ترتسم ملامح السكينة والأمان. للحظة تنبهت أنهما بقيا بجانبنا على الرصيف، بالمستوى نفسه! وبقيت حركتهما جلية وكذا ملامح الفتاة والولد المحني الرأس، مع أننا ما زلنا نسير بالسرعة ذاتها. كأن تسير تحت قمر في طريقٍ صحراوي لا ينتهي، مهما ابتعدت يبقى في المكان نفسه عنك، هكذا بالضبط كانا يرافقان مضينا المجنون نحو ما بدا لي أنهُ أجلُنا. فجأة أرعدت السماء، ونزل المطر، شعرتُ ببرودته ونعومة قطراتهِ تنزل على وجهي، مع أني داخل السيارة! وتعالت ضحكات طفولية، واهتززت كليَّ، صوتٌ مألوف بدأ ينادي:
سرمد...سرمد، ها ها ههه.
استيقظت، كان علي جالساً فوق صدري، يخضني بكلتا يديه، وهو ينثر على وجهي ما بقي من الماء في يده، من قدح معدني، تدحرج في أرضية الغرفة لما أوقعه.
أنت تقرأ
الركض برجل واحدة
Terrorالحرب الموت الدموع الحب الملاك المنقذ الفقد الخوف والندم إستحالة حدوث الممكن هذهِ السطور هي ذاكرتي... ربما اذا قدر لي ان انسى في يومًا ما، سأعود لأقرأ هذه النسخة مني.