<لَمة فروخ وگواويد، ومن تالي جايينة باسم الله، يحكمونا والتقهرك، الناس مصدگة، وانطت مناطقها>
غمغم ناصر، وهو يقلب قطع الدومينو في يديهِ بعينيه الحادتين المحمرتين أبداً كعيني حدأة.
<ترة محد بيده شي الدولة عافتهم، والناس التريدهم أقل من أن تقارنهم بالمغصوبين عليهم> قال حامد مقتضباً، ليس لأن الحمية حملته إنما؛ لأنهُ لجوج بطبعه في أي أمر سبره، أم لم يسبره هو يلج بذمة من يمسه الأمر.
< بعدين قبل ما تخون الخونة المعروف عنهم أن هذي شغلتهم خون الدولة، القيادات العسكرية السلمت قطاعاتها بدون معركة، المواطن ما مسؤول يدافع عن الدولة >
<يا معود شچلبت بهالسالفه المصخمة خلها تعلگ من طارف ما دمنا ببيوتنا شلنا بهل دوخة>
صرح قيس مقاطع حامد الذي كان ينوي أن لا ينهي النقاش قبل المساء لولا أن جاسم وضع خشبة الطاولي أمامه، وبدأ يرتب قطع اللعبة التي تشبه أزرار المعاطف السميكة، بالتفاتة متحذلقة لإنهاء كل شيء ..
كانت إحدى جلسات الظهاري المعتادة، والتي يعود أصلها إلى زمن الحصار والبطالة ... البطالة القسرية التي فرضتها الحرب الأهلية.
في هَذِهِ الجلسات يكون أكثر المتضررين صاحبة البيت وقوري الشاي الذي لا تطفئ النار تحته إلا لكي تصنع طبخة شاي أخرى، ومنافض السجائر التي تدفن بالرماد والأعقاب، وتفرغ لمرات ومرات. كانت أكواب الشاي تتوالى بشكل دوري وكأنها الزيت الذي يحرك هَذِهِ الجلسات، التي أوشكت أن تنقرض في السنوات القليلة الماضية مع استقرار الأوضاع، وتحسنها معنوياً ومادياً نسبياً والحركة الجدية للجنوح إلى السلام بين الطوائف كلها، لكنها مع تداعيات الأحداث الأخيرة وتردي الكهرباء وشحة الوقود لتشغيل المولدات البديلة عادة برائحة الهال الفواح وزفرة عرق الأجساد المسدحة على الأرضيات العارية الباردة، والسجائر التي تتكدس فوق بعضها في المنافض أكوام نفايات صغيرة، والذباب الذي يمارس شقلباته اللجوجة بين الأجساد الدبقة، والأكواب الفارغة.
<اگلك همَ كلهم يعرفون من يوم ٤/٤ أكو اشتباكات عل حدود، ودخلت مجموعات منهم لقرية ١٤ تموز والبارحة ٤/٨ مو؟>
استفسر غسان مبحلقاً في الوجوه التي أومأت بنعم، فاسترسل على نفس الوتيرة.
< البارحة سقطت الموصل وكل هذا بدون رد فعل حقيقي من الحكومة المركزية، الشغلة جبيرة والله يستر لا يلوحنا منها نزيزة.>
تأَفَّف قيس وأشعل سيجارة، وبدا وكأنه يهم بقول شيء ما لكنه، اكتفى بطلب كوب شاي، وعاد إلى إطراقه وعبوسه.
< زين، همةّ البل موصل نفسهم الثوار البل انبار؟ >سأله نصر.
<ثوار!! هه، يا ثوار يا ثور هذي حجة يضحكون بيها عل ناس العل نية، أول شغلة الثورة المبنية على أساس طائفي مو ثورة، إنما حجة لتصفية حسابات وبداية حرب أهلية، الثورة لازم يكون أساسها معالجة هموم الشعب وتقديم المصلحة العامة على مصلحة الجماعات داخل المجتمع، واحنة وضعنا ما شاء الله ما اريد حكم ما يمثلني عقائدياً، حتى لو أحسن من الحكم اليمثلني، معادلتنا عقيمة الطائفية متجذرة لحد التطرف بكل الطوائف.>
أيده سلام، وراح يتنبأ بما بعد حرب الإرهاب من حرب مذهبية ستأكل البلاد كنسخة كربونية من ٢٠٠٧. جن جنون مضر مع هذا الاستنتاج، وراح يستوقف الحديث بنعتات متوالية (هيهيهي..هيهيهي.. هيهيهي) فلما أخذ انتباه الجميع أنصرف يسرد موقفه المناهض لنبوءة سلام
<أنت غبي>
استفتح موقفه بشتيمة هي أقل من أن تذكر بين رفاق عمي خالد -تربطهم علاقة امتدت لعقدين أو أكثر-وأردف.
< بزمن الطائفية چانوا السنة يكتّلون بالشيعة، والشيعة يكتلون بالسنة، والشيعة بالشيعة، والسنة بالسنة والشيعة والسنة بالمسيح والأقليات ومحصلة هذا الإجرام الكلية سَمّوها (طائفية) على أساس حماية المذاهب والدين؛ لأنهم يخجلون أو ما يريد يعترفون أن كل هذا الدم والمجازر الصارت والعوائل التشردت والأرامل والأيتام، صار نتيجة للوحشية وروح الجريمة الزرعها (البعث) وكبتها بالناس.>
بحلق الجميع باستغراب من هذا الترابط المبهم، وراح يبين موقفه بنبرة مدافعة.
< عمي البعث خمس وثلاثون سنة، وچاكوچهم يدگ بالعراقيين الاعوج يندگ، المايعجبهم يندگ، المو وياهم يندگ، ومن يضوج الحزب، تذكرون، يندگ الشعب بلا سبب، بهذا الشكل نمت بذرة الجريمة بالفرد العراقي ويوم عن يوم الحزب يداريها وتكبر بس كبر على غير فايدة مثل فحل التوث؛ لأن محد يستجري يطلعها، تعرفون الحزب يزين شوارب الينبص. من سقط النظام سقطت ويَّاْ كل الحواجز الچانت تمنع الواحد يطلع المجرم البداخله، وساعدت بيئة الفوضى وانهيار كل شي من أكبر مؤسسات الدولة إلى أصغر دائرة بلدية على تمادي وتفاخر الناس بإجرامهم.
هشكل خلصوا العراقيين على بعضهم وخلصوا بعد ١١ سنة من الموت-الأغلبية منهم- على كل رغبة بالجريمة، صار تشبع ونفوراً من الجريمة، والخراب.
يعني باختصار يا سلَيّم بعد ماياكل اللعب على الوتر الطائفي ولا على أي شيء يبرر للجريمة مشروعيتها، ويخليها شي عادي.
بقت القلة هذول مجرمين من البيضة سواء منا أو منهم.>
حاول عم خالد فض النقاش الذي أججه مضر، بلا طائل لأنهُ اشتط وراح يتكلم فيما يشبه الصراخ، جاحضاً عينه ومحركاً للأعلى حاجبيه اللذين يستخدمهما عوضا عن يديه المشغولات بقطع الدومينو، للتعبير عن انفعاله. تأف أف قيس، وحدج مضر بنظرة مفتش حزبي، وغمغم بصوتٍ فاتر فتور الزمان الواقف منذُ أسابيع يتابع ما يجري بضجر متفرج ملول.
< شلون مع دروس علم الاجتماع؟ أخوي عوف النظريات والتنظير وعلم الاجتماع لو بي خير چان شبعك خبز مو الشهادة مرتاحة عل حايط، وأنت صار عشر سنين تكدح عمّالة من الصبح لليل. العراق ما يصفهْ، الطائفية نخرته نخراً، سدوا الموضوع، وخلونا نكمل فّر الدومنة على خير يرحم والديكم>.
زاغت الأبصار، وتنصلت الأنظار تنصلها أمام حرج الآخر، وجالت الرؤوس بين قطع الدومينو وأحجار النرد. وراح البعض يتنبأ بالنتيجة وآخرون يطالبون بدورهم في اللعب. وكأن ما كان شغل الجميع الشاغل قبل قليل لم يعد يعني أحداً. وساد الصمت.
****
الخامس عشر من حزيران. دخل عناصر التنظيم الجزء الجنوبي من القضاء، حاملين بيارق السواد، والتكبيرات في أفواههم تعلو لتغطي الريبة في نفوسهم. دخلوا بعد أن أعطوا كلمة لوجهاء المنطقة أنهم لن يمسوا المنطقة بسوء، وأنها ليست سوى ممر في طريقهم إلى بغداد. استعرضوا في الشارع العام، جيئة وذهاباً.
ولم يتطرقوا إلى توبة العسكر وموظفي الدولة ولا للمحاكم الشرعية ولا أحكام المدخنين وتبرج النساء ولا الثأر القديم من البلدة.
استعرضوا في الشارع عدة سيارات بتسليح وعدد هزيل، من الرعاع المهزوزين مثل عصابة من المهربين بالضبط. لكن أليسوا كذلك؟
لماذا إذن وصلوا إلينا بصيت جيش لا يقهر؟
وقفوا عند جامع الخلفاء في الجانب الآخر من الشارع عند مديرية الشرطة بالضبط، التي كانت خاوية وسيئة السمعة، مثل ماخور مهجور، كما أرادوها بالضبط.
نزلوا من السيارات الخمس التي كانوا يستقلونها، مشعثين، مغبرين، كمن بعث من موت عتيق، بملامح فقدت الإحساس بالحياة، كانوا مثل المجذوبين بين ضوضاء الجموع المتألبة والسيارات المحملة بالناس الذين جمعهم الخبر في أقل من عشرين دقيقة إلى هذا المحشر، لون الموت الشمعي دهم الوجوه الوجمة... تحدث شيخهم إلى الجمع متوخياً كل اللين، مطمئناً إنهم على العهد، ولن يمسوا المنطقة أو يدخلونها بعد هذا الإجراء ومؤملاً بغدٍ برائحة الإسلام المحمدي العادل، والزكي...
سأل أحد الواقفين إن كان مقصده: أن الجولة التي قاموا بها هي الأخيرة.
فأجابه شيخهم بالتأكيد. وأومئ لحامل الراية السوداء الذي كان بقربه أن تحرك. دارت الرؤوس وبحلقة العيون الفضولية. تحرك حامل الراية. بخطى ثقيلة، تحت دفقات أمواج العيون المحدقة بشراهة تتبع محاولة انتحار، دخل مديرية الشرطة. كان طويل القامة مربوعاً، ذا ملامحه مغيبة وبشرة صفراء يخالطها نمشٌ يتركز عند أنفه بكثافة، انعكاس أشعة الشمس عليه أضفى عليه لمعة شمعية باهتة، راح يمشي بفضاضة ثور هرم. هذا كل ما عرف عنه قبل أن يختفي في بطن البناية، ويظهر على السطح في الركن الذي يرفرف فيه العلم اليتيم ذو الألوان المغتالة، نظر إلى الحشد، تفرس الوجوه غير مكترث بكثرتها وتألبها تحته، وبحركة رشيقة واحدة أنزل العلم العراقي من على ساريته، ورفع بدلاً عنهُ علمه الأسود، صارخاً: الله أكبر، الله أكبر...
ابتلع الصمت المكان، كأنما كارثة لا يمكن درؤها حلت، كان صمت قسرياً حضور الكلمة وغيابها واحد، ردد رفاقه التكبيرات وراءه لعدة مرات، وسط الجمع المغيب في توقعاته، المستكين في مطابقتها مع الوقائع. لم يكن مشهد مهيباً ولا مروعاً إنما أقرب إلى مشهد هدم معلم آثاري لاستثمار مساحته في مشاريع مربحة، بهذا القدر من الحسرة، والنفور، والمهانة.
ذبحت المنطقة، أمام أعين أبنائها الذين يتراصفون خيم عزاء خرساء، ترمش وتداور الهواء، دون أن تند عن أحدهم ردة فعل، لا بالسلب ولا بالإيجاب، كلهم تنكروا لها. غير أن الكمد كان الصفة العامة للأمواج البشرية. كما لو في لحظة حداد كوني؛ سكوتٌ دبق، وسكونٌ قسري ترتعش لهُ الأفئدة، وتعتصر لهُ النفوس، خيم حيثُ لم يعد الحال مثلما كان قبل نزول العلم...
لا وجوه متهللة صريحة حتى من ارتضوا دخول التنظيم إلى المنطقة كانوا متجهمين، وإنّ كان بعضهم جذلاً في أسراريه ممن مازال يحمل النفس الطائفي أو مشحوناً بالأمل الساذج لانبعاث حزب بعث جديد يعيد الحكم إلى المكون. وجومٌ رهيب بعد لحظات أصاب الجميع مثل صاعقة، وأدت كل أمل...
***
فوران عارم اجتاح البلدة، فوران أعمى النفوس، ووأد كل فكرة لعرض الأفكار وتقليب الأسباب، عندما خرق أول بنود العهد، في المساء، بتفجيرهم مركز الشرطة الشمالي، تلاه أرسل قائمة تحوي مئتي اسم من أهالي المنطقة ضباط وموظفي الدرجات الرفيعة، ليمثلوا أمام محكمة التنظيم. التهب الناس كأنما مسو سوياً، بسبب حمية المساس بروابط الدم وبسبب اليقين بأن خرق أول بنود العهد سيتبعه خرق العهد كله.
ومثلما يساق الغريب إلى الوحدة مكرها-بعد سويعات من وصول خبر القوائم التي نكث فيها عناصر التنظيم عهدهم- وجد أهل البلدة أنفسهم ملزمين على قول كلمتهم بالرصاص وان تكن معركة خاسرة سقف آمالها أوطئ من الرؤوس التي ترتضي الهوان.
في ذلك المساء هب الأهالي. كان فوران، جنوناً، ثورة مدنية يقودها العسكر، سفت الأرض رجالاتها الساخطون المتدفقون نحو الموت أو الإطاحة بعصابات الظلام ناكثي العهود. مدججين بالسلاح والحمية، تحملهم سيارات تسير بسرعة السخط الطافق حتى من أحجار الطرق المنسية، نحو شمال القضاء حيث يتواجد عناصر التنظيم بعددهم الهزيل، المخزون من وقفت الاستعراض، الذي رفد للنفوس مسوغات الثورة.
حشود الأطفال والنساء ملؤوا الشوارع كما في تشييع الشهداء، وشحنوا عتمة ذلك الليل مفتوح الاحتمالات المأساوية بالنشيج والأدعية والإشاعات والضوضاء اللانهائية. وجوهٌ ذاهلة فقدت إحساسها بالزمان والمكان في حالة خدر تلامس حدود الإغماء، غير واعية لما صار وسيصير...
وبالسرعة التي ظهر بها، الوحش الكرتوني الذي نفخه الأعلام والفزع والتهويل، فصيره من عظاءة سلاحها طول لسانها إلى ديناصور أسطوري عملاق.
فر عناصر التنظيم أمام الأمواج الساخطة، فروا يجرون خلفهم أذيال الهزيمة بعد أن كسرت شوكتهم لأول مرة منذُ دخولهم إلى العراق، بأقل من ساعة، ساعة فقط وفروا...
***
الثالث عشر من تموز. عاد عناصر التنظيم بعدة وعدداً أكبر من المرة السابقة. وبعد معركة استمرت ليومين فشلوا في الدخول إلى جنوب القضاء، لكنهم استولوا على شماله وشرقه ومركزه؛ مما يعني جل المراكز الحيوية، فلا محطات وقود، ولا محكمة ولا مركز إطفاء، ولا مقبرة. كل ما بقي من الضلوعية هو جنوبها وغربها الذي يحده دجلة أيضاً، ومعارك، معارك ستمتد لتأخذ مأخذها من كل شيء. تؤمن الأرض على الشهداء فيدفنون في حدائق البيوت والبساتين على أمل أن ينتهي هذا الكابوس، ويدفنوا في مقبرة الأجداد...
فجر عناصر التنظيم الجسر الكونكريتي بصهريج مفخخ، وبذا خسرت المنطقة أهم منفذ يمكن أن تصل منه الإمدادات.
الأيام المطعونة برصاص الطرفين تمضي مثل عزاء لانهائي. شحة المؤونة، الماء، الوقود، والكهرباء جعلت حتى الأيام الهادئة أياماً صعبة، أنهُ الصراع من أجل البقاء...
استهدفوا الجسر الخشبي العائم بزورق مفخخ، واستشهد ناقل مؤون أعزل...
زوارق صيد الأسماك صارت وسيلة اتصال البلدة بالعالم الخارجي، تمدها بكل ما يمكن أن تحمله، من معبر بين البساتين في قرية السعّود يربط البلدة بمدينة بلد حيث لا تزال الحياة طبيعية إلى حدٍ ما....
أنت تقرأ
الركض برجل واحدة
Kinh dịالحرب الموت الدموع الحب الملاك المنقذ الفقد الخوف والندم إستحالة حدوث الممكن هذهِ السطور هي ذاكرتي... ربما اذا قدر لي ان انسى في يومًا ما، سأعود لأقرأ هذه النسخة مني.