لاح الصباح بضوء طفيف من ثغره، يداعب بدفء وجه (مراد) الطفولي؛ لحظةً واحدة... هناك من يطرق على الباب...
طق.
طق.
طق.
ثلاثُ نقراتٍ سريعة، يبدو أن أحدهم يطرق الباب بمفصل أصبعه السبابه
وبدأ الباب ينفتح برفقٍ ولكنه أصدر صريراً سريعاً و توقف الباب فجأة، عبر من خلاله كائن لا تصفه الأعين ذو ظلٍ طويل لا يُرى من تفاصيله ذو شعرٍ مُجعد غير مرتب على الأرجح.
و بدأ هذا الظل بالإقتراب من فراش (مُراد) رويدًا رويداً...
حتى وصل الكائن لوجه( مراد) و صاح به بصوتٍ عال:
- مياااوو (مطلقاً بعض نفرات القطة الشرسه)
فقام (مراد) فزعاً و حدق بهذا الكائن.
ما كان هذا الكائن ذا الشكل والتصرفات العجيبة إلا (نيّرة) رفيقة درب (مراد) و أخته الصغيره.
و في وصفها الحالي، فتاة لا تتعدى السبع أعوامٍ ترتدي (بيجامه) النوم البيضاء التي رُسم عليها بعض رقاقات الثلج مما يجعلك تدرك أنهم في فصل الشتاء.
وجهها أبيضٌ مائل للسُمرة و يحتوي على بعض النمش الداكن على خديّها مما يجعل إبتسامتها الطفولية لؤلؤا يتزين بالنجوم الزرقاء في عينيها كأنما يزيد كمالُها كمالاً.
و أما عن صديقنا العزيز (مراد) الذي أستفاق من نومه على تلك القطة الشيرازيّة فهو حالياً لايقدر على الكلام.
ليس لأنه أبكم بالطبع لا!
إنه فقط يحاول منع ضحكته أن تنطلق خوفاً على طبلة أذن الجيران.
أما عن وصف صديقنا؛ فهو كمن يبدو عليه التجهم مما حدث معه منذ قليل..
أسمر البشرة قصير الشعر مما يجعل مظهره مرتباً نوعاً ما..
يرتدي بنطالاً و (تي شيرت) خالي من الرسومات.
- هيّا يا قطة قطة قطة.
قالها (مراد) مُمازحاً لما تفعله (نيرة) من حركات قططية كالإلتواء و التمطّع.
ثم وقفت على ركبتيها كما تقف القطة الجائعة إنتظاراً للطعام.
ترجم (مراد) تلك الحركة و أدرك أنها جائعة ثم أتبع ضاحكاً:
- لا طعام للقطط التي لا تغسلُ قوائمها الأربع جيداً و بالصابون..
فظهرت علامات الحزن في وجه (نيرة) فقام (مراد) بمد يده مداعباً ذقنها فأصدرت خرّةً كالقطط دليلاً على سعادتها بالأمر...
ولدت (نيرة) بكماء، فعوضها الله عن الصوت جمالاً و لطافةً لا تُحصى.
«تن تن تن تن تن.»
كان هذا صوت جرس صغير يأتي من الطابق السفلي..
سرعان ما أدركه (مراد)و(نيرة)
جريا بأسرع ما يمكن ناحية الحوض للإغتسال و تناول طعام الفطور.
أثناء نزولهما للطابق السُفلي تغلغلت رائحة فطائر (البانكيك) الشهية إلى حواس تذوقهما مما جعل لعابهما يكاد يسيل.
- مرحباً مرحباً بالمشاكسين الصغار.
كان ذلك صوت (سميرة) والدة مراد و نيرة
تبلغ سميرة من العمر تسع وعشرون عاماً
لكن لو وصفناها.
سنجد أنها الأن تقف في المطبخ كالمُعتاد في كل صباح..
تُعد فطورها الشهير الذي يجعل حتى من الجيران أطفالاً لها.
ترتدي مئزر المطبخ ذا اللون الأسود و تربط شعرها خلف رأسها على الطريقة اليابانية في طوكيو التي يسمونها (كعكة الفول)
غريبة تلك التسميات حقاً، لا أحد يعرف أصولها ولا بأي حقبة زمنية بدأت، أو حتى متى سوف تنتهي.
- هيا اجلسا فأنا لا أملك اليوم بطوله!
قالتها (سميرة) وهي تتعجل في إتمام الفطور حتى لا تتأخر على عملها.
- «صوت تثاؤب»
- صباح الخير بالجميلة النائمة.
كانت تلك (سميرة) تسخر من مواعيد (حامد) في الإستيقاظ ولكنه لايشكل فارقاً فعمله لا يهتم بالوقت بشكلٍ دقيق فإنه يأخذ شهوراً وربما أعواماً...
كان (حامد) في الثانية و الثلاثون من عمره
رغم ذلك فإن بنية جسده توهمك أنه في عز شبابه، ذو جسد لا هو بنحيف أو بثخين
يحافظ على لياقته ياله من نشيط!
و عن عمل حامد الذي لا يعتمد على الوقت كان يعمل صحفياً لشركة (....) التي لن أذكر إسمها حتى لا تقاضيني، الإعلامية المشهورة، ثم توقف عن العمل أثر قواعد جديدة قد طُبقت على مركزه الصحفي المرموق، من يومها و هو يلعن تلك الشركة و ورؤساء أقسامها، فعمل عملاً وجد أنه يصفه و يجعل من باله مرتاحاً، كان كاتباً من الدرجة الثانية ما بعد التدريب، أصبح يكتب أشعاراً وروايات قصيرة أشهرته محلياً و قريباً عالمياً!
كانت تلك أمانيّه..
لم يرد شيئاً من العالم إلا ما هو به الأن..
أن يكون مع عائلته و يمنحها قدر الحب الذي لم يُعطى له بالماضي.
- أين شرد ذهنك يارفيق الدرب؟
كانت هذه (سميرة) تخرج حامد عن بحر أفكاره،
«آهٍ يا (ميرة) دائماً ما كنتِ لي طوقَ نجاةٍ من نفسي..»
كانت تلك أخر فكرة تجول في بال حامد قبل أن يجيب:
- لا أبداً يا حضرة البروفيسور قد حفظت المحاضرة عن ظهر قلب!
«أحلام كل طالبٍ جامعي بحق.»
- ها ها ها... ظريفٌ كعادتك أيها المتغيّب، و الأن أجلس حتى لا أنهال عليك ببعض «الكويزات» التي تجعلك تعيد التفكير في قرارات حياتك.
قالتها (سميرة) و هي تلوح بمضرب البيض الحديدي الذي في يدها اليُمنى.
- سمعاً و طاعة يا مولاي.
«سخريتك هذه ستفتك بك يوماً ما يا حامد.»
و هاهُم الأن يتناولون طعام الإفطار بسلامٍ وهدوء.
لكن..
لحظة واحدة...
ما هذا التشقق الغريب في أعلى السقف؟
يشبه شق كهف..
كهفٍ مليء بالأضواء لا أكاد أرى شيئاً من شدة ضوئه
إن ضوئه يزداد بشدة
يا إلهي!
قد إلتهم هذا الضوء عائلة مراد بأكملها!
لكن من هذا الذي يجلس بمكان مراد؟
لحظة...
إنه مراد!
لكن قد إزداد طوله..
وتغيرت تصفيفة شعره و أصبحت غريبة على العين..
ونمت لهُ لحيةً خفيفة أيضاً..
أو ربما أنا أتوهم فقط و أنه أحد أشباهه الأربعين.
ولكن لحظة...
أين أختفى ذلك الشق الذي كان بالسقف قبل قليل؟
