الثمن

2 0 0
                                    

عقد_الشيطان
الجزء الخامس : الثمن
في الضوء الخافت لشقته، محاطًا ببقايا حياته المحطمة، جلس طارق عبد العزيز أمام جهاز الكمبيوتر الخاص به، الشاشة لوحة فارغة تنتظر بصمة أفكاره. كان الهواء مشحونًا بتوتر الكلمات غير المنطوقة، صمت كان في الوقت نفسه رفيقًا وخصمًا. طارق، الذي كان يومًا السيد في نسج الحكايات من خيوط الظلام، وجد نفسه الآن على حافة سرد لم يتمنى يومًا سرده - سرد انهياره الخاص.
ترددت أصابعه فوق لوحة المفاتيح، مترددة كما لو أن الكتابة يمكن أن تثبت مصيره بطريقة ما. لكن إلحاح رسالته، نداء محاك بنسيج التحذير، دفعه إلى الأمام. هذا البريد الإلكتروني، هذه الشهادة الأخيرة، لم يكن مجرد رسالة ولكن كان منارة، منارة توجه الآخرين بعيدًا عن الصخور التي حطمت سفينته الخاصة.
بنفس عميق ومستقر، بدأ طارق بالكتابة. الكلمات التي تدفقت منه لم تكن مصاغة بأناقة القاص ولكن بيأس رجل نظر إلى الهاوية ووجدها تحدق به. كتب عن الكتاب، ذلك المجلد الملعون الذي وعد بالكثير وأوصله فقط إلى اليأس. كتب عن الظلام الذي تسلل إلى حياته، ظل يستهلك ليس فقط النور ولكن جوهر وجوده.
كان البريد الإلكتروني اعترافًا، إقرارًا بغروره في الاعتقاد بأنه يمكن أن يرقص مع الظلال ويخرج دون أن يمسه سوء. لكن أكثر من ذلك، كان تحذيرًا - قصة تحذيرية لمن سيتبع خطاه، باغراء الشهرة وجاذبية المعرفة المحرمة. طلب طارق من القارئ الانتباه لكلماته، ليفهم أن بعض الأبواب، بمجرد فتحها، لا يمكن إغلاقها مجددًا، وأن السعي وراء المجد يمكن أن يقود ليس إلى النجوم بل إلى أعماق الجحيم.
بينما كتب، شعر طارق بحمل تجاربه يضغط عليه، كل كلمة حجر يضاف إلى العبء الذي يحمله. ومع ذلك، كان هناك أيضًا شعور بالتحرر، تطهير بمشاركته قصته. كان يعلم أن قصته، مثل تلك التي كتبها من قبل، ستجد طريقها إلى قلوب وعقول قرائه. ولكن بينما كان يسعى في السابق للتسلية، للإثارة، للترويع، كانت رغبته الوحيدة الآن هي إنقاذ الآخرين من المصير الذي حل به.
عندما اكتمل البريد الإلكتروني، توقف طارق، إصبعه معلق فوق زر 'إرسال'. كان هذا نقطة اللاعودة، اللحظة التي سيتم فيها إرسال تحذيره إلى العالم، رسالة في زجاجة رقمية تطفو على بحر الإنترنت. ضغط على الزر، أرسل رسالته إلى الناشر.
لكن طارق لم يشعر بالراحة، أحس فقط بالصدى الفارغ لمعركة خاضها وخسر. استند إلى الوراء في كرسيه، ضوء الشاشة يلقي ظلالًا شبحية على وجهه، رجل مطارد بخلقه الخاص.
خارجًا، تحركت القاهرة قدمًا، غافلة عن الدراما التي تكشفت داخل جدران شقة طارق. لكن بالنسبة لطارق، كان العالم قد انحسر إلى المسافة بينه وبين جهاز الكمبيوتر، الفجوة بين الواقع والعالم المظلم الذي استحضره بكلماته. بريده الإلكتروني، رسالة تحذير ويأس، كان مساهمته الأخيرة في العالم الأدبي، إرث مكتوب ليس بحبر المجد ولكن بدم قلبه.
استلم الناشر البريد الالكتروني من طارق، ولدى استطلاعه لمحتواه، أُسر بروعة الأحداث، معتقدًا أنها روايته القادمة التي سترضي القراء مجددًا. بعث بجواب فوري لطارق يقترح فيه تحديد موعد لإطلاق حملة ترويجية لروايته المنتظرة. مع مرور الوقت، كان الهدوء الغامض هو الرد الوحيد. حاول الناشر التواصل مع طارق، لكنه كان يواجه دائمًا نفس الردود الآلية "الهاتف المطلوب مغلق أو غير متاح".
تصاعد قلق الناشر فقرر التوجه إلى شقة طارق.
كانت المدينة تستيقظ للحياة، شمس الصباح الباكر تلقي بظلالها الطويلة عبر الشوارع القديمة، خلفية تاريخية لدراما اليوم. صدى خطوات الناشر في هدوء وهو يقترب من البناء، حمل مهمته يثقل كتفيه. حاول أن يستعد لما قد يجده، لكن لا شيء كان يمكن أن يجهزه للواقع الذي كان بانتظاره.
عند وصوله إلى باب طارق، صدى طرقاته بلا إجابة، صمت من داخل الشقة كان ثقيلًا ومشؤومًا. مخاوف الناشر، همسة ملحة منذ تلقيه رسالة طارق، تحولت إلى صرخة. بدون استجابة و الخوف يزداد ثقلًا مع كل لحظة تمر، سعى لمساعدة حارس البناء، حليف متردد في اقتحام ملاذ رجل خاص.
معًا، أجبروا الباب، مقاومة القفل تستسلم لجهودهم المشتركة. قلب الناشر يتسارع والباب يفتح. داخل الشقة، تابلوه من الإهمال واليأس يحكي قصص الأيام الأخيرة لطارق. لكن الرائحة هي التي صدمتهم، رائحة لحم محترق نفاذة تبدو وكأنها تتسرب من الجدران نفسها، رائحة قوية ومروعة تذكر بالشواء بشكل مفزع جعل الناشر والحارس يتجمدان على العتبة.
كانت الرائحة مقدمة للرعب، تحذير من الظلام الذي أحاط بحياة طارق. دخلوا الشقة، والرائحة تصبح شبحًا يختفي بسرعة كما ظهر، تاركًا فقط الهواء العتيق لمكان مغلق طويلًا عن العالم.
كانت الشقة في فوضى، تجسيد مادي لانهيار عقل طارق. الأوراق والكتب متناثرة، والنوافذ المغلقة لا تسمح بدخول الضوء إلى الظلمة.
لكن الكتاب هو الذي جذب انتباه الناشر، غلافه لوحة لرعب توغل حتى العظام. هناك، مُصوَر بتفاصيل حية، كان طارق و على وجهه اعتى ملامح الرعب والألم ، محاطًا بألسنة لهب تبدو وكأنها تقفز من الغلاف. وفي الخلفية، وسط هذا الجحيم من النيران، كان يقف كيان شيطاني. عيونه تتوهج و على وجهه ابتسامه خبيثة، مشاهدا مشهد طارق وسط السنة اللهب، متلذذا بعذابه.
ادرك الناشر أن آخر تواصل من طارق لم يكن نداء للمساعدة بل تحذير، استجداء لفهم ثمن الغوص عميقًا في المجهول، كان عبئًا يعلم الناشر أنه سيحمله طوال حياته. مصير طارق، المحتوم بطموحه وتورطه المأساوي مع قوى خارجة عن سيطرته، كان قصة ستطارد العالم الأدبي، تذكير قاسي بالخط الرفيع بين العبقرية والجنون.
عندما غادر الناشر الشقة، بدا ضوء الصباح الباكر أكثر خفوتًا، حياة المدينة النابضة تتناقض بشكل صارخ مع الظلام الذي ابتلع أحد ألمع نجومها. طارق عبد العزيز، الذي كان يومًا منارة من البراعة الأدبية، قد انطفأ، تاركًا وراءه إرثًا ملفوفًا بالظلال وقصة تحذيرية عن الرحلة الخطرة إلى قلب الظلام.
***تمت***

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Apr 28 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

عقد الشيطان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن