عقد_الشيطان
الجزء الثاني: الصعود
في الأسابيع التي تلت نشر قصته، وجد طارق عبد العزيز نفسه على قمة موجة لم يكن ليتخيلها أبدًا. بدت القاهرة بعظمتها، تنبض بشهرته الجديدة. اللوحات الإعلانية التي تحمل اسمه تعلو فوق الشوارع المزدحمة بالناس، بعضهم يحمل كتابه في أيديهم كما لو كان تميمة. صورته المقابلات التلفزيونية والإذاعية كصوت لجيل، كاتب ذو فهم عميق للخوف يتجاوز حدود الأدب ويغوص في جوهر الطبيعة البشرية.
ومع سطوع نجمه، شعر طارق بانفصال متزايد عن العالم من حوله. الشقة التي كانت في يوم من الأيام ملاذه، سجنه خلال أيام عقدة الكتابة، بدت الآن كمسرح لمسرحية هو بطلها وجمهورها. راقب نفسه يمر بدرجات النجاح، يبتسم للكاميرات، يوزع التوقيعات، ويتحدث ببلاغة عن الإلهام وراء قصته، وكل ذلك وهو يشعر بفراغ ينهش في اعماقه.
الكتاب الذي كان مصدر إلهامه جلس على مكتبه، غلافه مغلق، أسراره مخبأة داخل الصفحات الفارغة التي كانت تحمل القصة التي غيرت حياته. لم يستطع طارق أن يفتحه مرة أخرى، خائفًا مما قد ينبثق من أعماقه. الوجود الذي شعر به تلك الليلة، القوة الشريرة التي همست في الظلام، بقي معلقا في ذاكرته.
كانت أحلامه مسكونة برؤى لشخصيات ظلية وأماكن قديمة منسية، صدى للقصة التي أسرت العالم. تركته هذه الأحلام يشعر بالإنهاك، كما لو أن الكيان الذي أعطاه القصة يتغذى الآن على حيويته، تاركًا إياه فارغًا. كان التناقض الصارخ بين شخصيته العامة، المحتفى بها والمعشوقة، واضطرابه الخاص، المليء بالرهبة والشك، هوة تتسع يومًا بعد يوم.
بدأت علاقات طارق تعاني تحت وطأة شهرته. الأصدقاء والعائلة، الذين كانوا في يوم من الأيام أساس حياته، بدوا الآن كشخصيات بعيدة، غير قادرين على فهم التيار الداكن الذي يجري تحت نجاحه. أصبحت المحادثات معهم متكلفة، الضحكات المشتركة والدفء استبدلت بتحيات مهذبة ومخاوف غير معلنة. وجد طارق نفسه ينسحب أكثر فأكثر إلى عقله، حصن يمكنه من خلاله الدفاع ضد شعور الارتياب المتزايد الذي همس له عن أخطار غير مرئية تتربص في كل ظل.
بدا شغف الجمهور بعمله لا يشبع. المطالب بقصص جديدة، و النظرات إلى العقل الذي ابتكر مثل هذه التحفة، كانت لا ترحم. شعر طارق بالضغط يتزايد، طلبًا لتكرار المعجزة التي أوصلته إلى هذه القمة. عرض الكتاب حلاً، وعده الصامت بقصص لا نهاية لها إغراءً يصعب مقاومته مع مرور كل يوم.
لكن طارق كان يعلم أن فتح الكتاب مرة أخرى سيكون دعوة لمزيد من الظلام إلى حياته، لإطلاق العنان لأكثر من مجرد قصص على العالم. التوازن بين رغبة النجاح المستمر والخوف مما قد يكلفه، كان حملا يثقل كتفيه. الإشادة التي كانت ذات يوم حلمه باتت الآن تشبه عقدًا مع شيء لا يمكن فهمه، صفقة تمت دون فهم الشروط بالكامل.
وجد طارق الطريق خلفه مليء بحطام حياته السابقة، بقايا زمن بسيط قبل أن يأتي الكتاب إلى حوزته. أمامه تقع وعود بمزيد من الشهرة والتكريم، الظلام الذي لمس حياته كان ظلاً لا يمكن لأي ضوء أن يبدده، رفيقًا دائمًا في رحلته إلى المجهول.
كان صعود طارق عبد العزيز قصة نجاح أسرت أمة، ولكن خلف هذا الستار، تكشفت سردية أكثر قتامة، تهمس بشأن الشرور القديمة وثمن الطموح. كان طارق على وعي تام بالعيون التي تراقبه من الظلام، في انتظار لرؤية ما الخيارات التي سيتخذها، أي القصص التي سيروي. السؤال الذي ظل دون إجابة، الذي يتردد في اللحظات الصامتة قبل أن يدركه النوم.
وجد طارق عبد العزيز نفسه محاصرًا في شبكة من الشهرة وعدم الارتياح. العالم كان يحتفل باسمه، لكن داخل حدود شقته، بدأت اضطرابات غريبة تشق طبقة نجاحه. بدأت بشكل خفي شبه غير ملحوظ، سلسلة من الأحداث الغريبة التي يمكن بسهولة تجاهلها كنتاج للتوتر أو قلة النوم. ولكن مع استمرارها، وتزايدها في الشدة والتكرار، لم يعد بإمكان طارق تجاهل الإدراك المرعب بأن هناك شيئًا أكثر شرًا يلعب دورًا.
بدأت بالهمسات. همسات خافتة غير واضحة المعالم، تبدو وكأنها تجوب غرف شقته ليلًا، منخفضة جدًا لفك طلاسمها لكن عالية بما يكفي لتزعج الصمت. كان طارق يستيقظ قلبه يخفق بعنف، محاولًا التقاط الكلمات، لكنها كانت تختفي بسرعة كما جاءت، تاركةً وراءها شعورًا مستمرًا بالرهبة. كان يقنع نفسه بأنها مجرد صدى لأفكاره، نتيجة طبيعية لقضاء وقت طويل بمفرده. ومع ذلك، لم يستطع تجاهل شعور بأنه يتم مراقبته، بأنه ليس وحيدًا تمامًا، كان قلق مستمر يطارد كل خطوة يخطوها.
ثم كانت هناك الظلال. لاحظ طارق وجودها في أطراف رؤيته، لمحات سريعة لحركة. كانت تتسلل عند حواف رؤيته، خفية ومع ذلك بشكل لا لبس فيه موجودة. كان يلتفت متوقعًا أن يجد مصدر الحركة، فقط ليواجه بسكون شقته. لكن شعور بوجود شيء خارج مجال الرؤية استمر، حضور يبدو أنه يسخر من محاولاته لتبريره.
أصبحت الاضطرابات ملموسة أكثر، أصعب في التجاهل. بدأت الأشياء تتحرك من تلقاء نفسها، كتب تسقط من على الرفوف بدون سبب، أقلام تتدحرج عبر الطاولات، وأضواء تومض و تنطفئ في رقصة شريرة. شاهد طارق مذعورًا، كيف بدا عالمه يتفكك، قوانين الفيزياء تنحني داخل حدود منزله. بحث عن تفسيرات، عن أي سبب منطقي وراء الظواهر، لكنه لم يجد أيًا منها. الواقع الذي اعتبره أمرًا مسلمًا به كان ينزلق، كاشفاً عن نسيج أكثر قتامة.
كانت ذروة الاحداث المريبة في ليلة حارقة، عندما استيقظ طارق على صوت زجاج يتحطم. قلبه ينبض بسرعة، تعثر إلى غرفة المعيشة ليجد النافذة المطلة على الشارع سليمة، المدينة هادئة تحت غطاء الليل. لكن المرآة التي كانت معلقة على الجدار المقابل كانت محطمة على الأرض، كما لو أنها ضربت بقوة غير مرئية. في انعكاس الشظايا المتبقية، رأى طارق ليس فقط تعبيره المرتبك ولكن أيضًا وميضًا لشيء آخر، شخصية ظلية اختفت بمجرد أن حاول الالتفات اليها.
كان الرعب الذي امتلكه حينها جمد الدماء في عروقه، خوف عميق جعله مشلولا في مكانه. الإدراك بأن الاضطرابات لم تكن مجرد نتاج خياله ولكن تجليات للوجود الشرير الذي شعر به منذ اقتنائه الكتاب كان لا يمكن إنكاره. الكيان أيًا كان، قد اخترق الحاجز بين العوالم، مستخدمًا القصص كوسيط، والآن يبدو أنه يعلن عن وجوده بعدوانية متزايدة.
مع بزوغ الفجر على المدينة، راسمًا ضوءًا ذهبيًا على أنقاض المرآة المحطمة، اتخذ طارق قرارًا. لم يستطع الاستمرار في العيش بخوف، أسيرًا في منزله الخاص. كان بحاجة إلى إجابات، وكان هناك مكان واحد فقط للعثور عليها. الكتاب، مصدر نجاحه وعذابه، يحمل المفتاح. كان سيغوص في أسراره، يكشف أصوله، ويتعلم كيفية إنهاء الهواجس التي استولت على حياته.
ولكن مع توجه طارق لمواجهة الظلام، لم يستطع التخلص من الشعور بأنه يلاعب شيء أكبر وأكثر شرًا مما كان يتخيل. كان الكتاب قد اختاره لسبب ما.
كان الهواء مثقلا بترقب عاصفة وشيكة، بالنسبة لطارق كانت العاصفة الحقيقية تتكون بالفعل، مركزها الفوضى الهادئة في شقته الخاصة. وسط الأحداث المقلقة والخوف المتزايد الذي يطارد كل لحظة من حياته، وصلت رسالة غير متوقعة، نذير رقمي للدمار الذي ظهر على شاشة اللابتوب في أحد أيام الصيف الحارقة.
كان بريد إلكتروني مجهول الهوية، عنوان الراسل سلسلة من الأحرف العبثية التي لم تقدم أي تلميح عن هويته. كانت الرسالة نفسها موجزة، لكن كلماتها صدمت طارق بقوة :
"توقف عن استخدام الكتاب. أنت لا تفهم ما أطلقته. ليست مجرد قصص. إنه تحذير."
نظر طارق إلى الشاشة، كانت غريزته الأولى هي تجاهلها كمقلب، تنفيس مرير من نظير حسود أو هذيان من معجب غارق بعمق في العالم الذي خلقه. لكن صدى الحقيقة في تلك الكلمات، الصدى مع مخاوفه المتزايدة، رسخ الرسالة في ذهنه، بذرة شك بدأت تنمو بسرعة إلى قلق مستفحل.
من أرسلها؟ و كم مَنْ يعرفون عن الكتاب وأصوله؟ الأسئلة دارت في ذهن طارق، دوامة من الشكوك والخوف. أصبح الغموض الذي يوفره الإنترنت، والذي كان عادةً الحجاب الذي يمكنه الاختباء خلفه من معجبيه الأكثر حماسة، يبدو الآن فراغًا مهددًا، مساحة حيث يمكن أن تتربص الأخطار غير المرئية.
أصبح التحذير نقطة محورية في أفكاره، تطغى حتى على الأحداث الغريبة التي أصبحت جزءًا مقلقًا منتظمًا من حياته. وجد طارق نفسه يحلل الرسالة بحثًا عن أدلة، يفكك كلماتها بحثًا عن معانٍ خفية، لكن الحقيقة ظلت غامضة، والراسل ظل ظلاً بين الظلال.
في الأيام التالية، انكمش عالم طارق، يتقلص إلى حدود شقته وشاشة اللابتوب المتوهجة. كان مستهلكًا بالحاجة إلى الفهم، لكشف أسرار الكتاب الذي جلس كراوي صامت على مكتبه. بحث على الإنترنت عن أي ذكر لظواهر مماثلة، عن أي تلميح لأصول الكتاب أو مالكيه السابقين، لكن كل بحث قاده إلى متاهة من التكهنات والأساطير، لا شيء منها قدم أي إجابات ملموسة.
كلما بحث أكثر، أصبح أكثر عزلة، تفاعلاته مع العالم الخارجي تقلصت إلى رحلات قصيرة وضرورية للطعام والضروريات. أصبح أصدقاؤه، الذين كانوا في يوم من الأيام حضورًا ثابتًا في حياته، أصواتًا بعيدة على الطرف الآخر من الهاتف، قلقهم ملموس لكن عاجز عن اختراق ضباب هوسه.
وطوال ذلك، استمرت الاضطرابات، تذكيرًا لا يرحم بالقوة غير المرئية التي اجتاحت حياته. أصبحت الهمسات أعلى، الظلال أكثر جرأة.
أصبح التحذير الذي كان في البداية مصدرًا للخوف، تحديًا. لغزًا كان طارق مصممًا على حله. لم يستطع تجاهل الكتاب، لم يستطع ببساطة التخلي عن اللغز والخطر الذي يشكله. القيام بذلك سيكون اعترافًا بالهزيمة، قبولًا بأنه كان مجرد بيدق في لعبة تتجاوز فهمه. لكن طارق لم يكن بيدقًا. كان كاتبًا، خالق عوالم، ولن يُرهب بالظلال والهمسات.
لذا، غاص أعمق، مدفوعًا بمزيج من الخوف والتحدي، اكثر عزمًا على مواجهة أي ظلام أطلقه.
يتبع في الجزء الثالث
أنت تقرأ
عقد الشيطان
Terrorعقد_الشيطان طارق عبد العزيز، الأسطورة في عالم الرعب و المتألق بين أوساط محبيه، وجد نفسه فجأة في مواجهة جفاف إبداعي مباغت، حيث تخلى عنه إلهامه الذي أغنى العالم برواياته الساحرة التي خطفت قلوب الجماهير. عاجزًا أمام الصفحات الفارغة، لم يعد قادرًا على...