دارٌ كان يعُج بالحياة ويفيض بالسرور و دفء العائلة وصخب الأطفال، لم يسلم من طائرات الصهاينة؛ قُصفَ وتهاوت أركانه وتصدعت جدرانه أصبح قبرًا يحتضن ساكنيه، لكن شاءت معيةُ الله؛ ليُخرجَ من بين الردم شابًا لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره وطفلًا في العاشرة ورضيعة بعمر الحرب، ثلاثتهم أصبحوا بلا مأوى بلا أم تؤمن خوفهم بلا أب يقويهم ويصبرهم، في ليلة وبلمح البصر فقدوا كل شيء يمُتُ للحياة بصلة.
مرت أيام وليالي وهم يتلحفون الطُرقات بلا مأوى بلا زاد؛ تحت وابل من النار، وفي نهاية المطاف أُجبروا على النزوح إلى رفح والخروج من حيهم الذي ولدوا وتربوا وترعرعوا فيه؛ ماذا بقيَ فيه اصلًا؟، وطائراتهم دمرت، ودباباتهم أقتعلت وأبتلعت كل شيء.
هُناك في رفح تحديدًا في تل السلطان أصبح لديهم دارًا جديدًا نعم صغير ولا يقيهم الحر والبرد .. هي خيمة لكنها أفضل من النوم على الرصيف المُتكدس بالجُثث وأشلاء الشهداء.
تغيرت حياة الشاب ليُصبح الأب والأم في آنٍ واحد، يستيقظ كل صباح بحثًا عن عمل عله يجد حليبًا وحفاظًا لأُخته الرضيعة، رُغم تدهور الأوضاع ومخاطر من الأجتياح الصهيوني إلا انه لم يرتدع ولم يهتم، فضل الموت بطلقة من قناص مُختل على أن يموت أخويه جوعًا.
في أحدى المرات ذهب إلى البحر بعد أن علم أن العرب سيُنزلون بطائراتهم سِلالًا غذائية .. ذهب وتمنى لو لم يذهب ليرى ما يرى .. بعد عناء وقطع مسافات طويلة آلاف الآلاف بل أفواج من الرجال أطفالًا وشُبانًا وشيوخًا تزاحموا أمام شاطئ البحر؛ كُلن يترقب وينتظر تحت حرارة الشمس ولهيبها فقط لأجل أن يُطعموا عائلتهم ومن في كنفهم على ألا يموتوا جوعًا ويموتوا هم من حسرتهم وعجزهم .. سمعوا طنين الطائرات التي فجأتهم وأخذت ترميهم بوابل من السلال؛ تُصيب هذا و تردي هذا مغشيًا عليه، وتقتل هذا .. تحول لون البحر من زُرقته الصافية إلى الأحمر القاني وعشرات من الأجساد تطفو بوسطه وعلى جنباة الشاطئ، منهم من استشهد وهو يحتضن سلته، والبعض الأخرى ظل يُردد "أمانة ولادي لا يموتوا أمانة طعموا ولادي سيبوني أموت بس أمانة خدو السلة وطعمو ولادي أمانة" وهكذا ظل يُردد حتى وافته المنية.
تحسنت أوضاع بطلنا وأخويه حيث وجد عملًا براتب زهيد استطاع من خلاله أن يُضاعف عدد وجباتهم لتصبح مرتان في اليوم وصار بمقدوره شراء أربع حفاظات وعلبة حليب متوسطة يقتصد فيها حتى نهاية الشهر،
اقترب محمود منه وهو يحمل أخته الرضيعة : "إمتى بدك تروح اليوم؟"
انتعل محمد حِذائيه بعجل ( أعزكم الله ) : "متل كل يوم حبيبي".. ، انتبه لمعالم الخيبة والحزن : "شو محمود شيفاك مكشر؟"
محمود، طأطأ برأسه : "مفش إشي روح ربنا يسهل عليك"
محمد، جلس على أطراف أصابعه مُحاذي مستوى أخيه : "و ربنا مروح احكي شو في؟ محتاج إشي؟ بدك إشي؟ احكي انا ابوك قبل اكون اخوك قول يلا حبيبي محمود"
محمود، بتردد : "بدي ألعب مع لولاد .. ، رفع راسه ودموعه ملئ حدقتيه : مينفعش تسيب شغلك اليوم بس وتقعد مع أُختي؟ بدي ألعب يا خويا، بعرف بتشتغل وبتتعب كتير بس بوعدك هاي المره بس ألعب وبصير راجل متلك بشتغل وكمان بداري أُختي
محمد، سحب أخته من بين يدي محمود لحضنه ببتسامه يُخفي خلفها مرارة من الآسئ والقهر : "روح يا حبيبي روح متشغلش بالك"
محمود : "بس شغلـ...
محمد : "هاخد اجازة، يلا روح يا بطل شَوفي لولاد شو بيطلع منك يلااا"
محمود، مسح دموعه بأطراف كُمه البالي وخرج من الخيمة وهو يقفز فرحًا،
دمعة عيناه محمد وهو يرى محمود تاره يُراوغ خصمه وتاره يقفز بالكُرة مُسدِدًا هدفًا وكأنه طير تحرر من قفصه اخيرًا .. ، أجلس أُخته خلف رقبته وخرج من المُخيم تائه الخُطى .. ، واصل المشي بين أنقاض وأرمدت المباني .. ، جَلسَ مُسندًا ظهره على جدار ظل واقفًا رُغم انهيار ما حوله .. ، ضّمَ أخته لصدره مُنتحِيبًا؛ ثمانية أشهر تحامل على نفسه، واصل السعي والعيش وكأن لا حرب ولا مجازر ولا دِماء، وهو الذي شَهِدا موت جميع عائلته وأقاربه ومن يعرف؛ لكنه ظل صامدًا قويًا لم يتزحزح .. وما إن رأى دموع أخيه و رجاؤه في أن يُمارس طفولته ولو لمرة أخيرة؛ نسفَ جميع حصون قوته مُتزعزعًا مُنهارًا،
شعوب العالم تُمارس حياتها الطبيعية ومنهم من يعيش ببذخ، بينما الفلسطيني يتمنى لو لحظة واحدة تُعيد له أنسانيتهُ.
-الأحد ٢٠٢٤/٥/٢٦م-
عاد من الصلاة مُستلقيًا بجانب أخته التي لازالت تغُطُ بنومها ، جلس محمود قُبالته :"بدهاش تفيق اليوم؟"
محمد، و ذراعيه تُحيط بجسدها الضئيل : "فش احلى من النوم؟"
محمود، تلمس أناملها الصغيرة : "طب فيقها بدي ألعب معاها"
محمد : "لا سيبها".. ، رمقه بنظرات ناعسه : روح ألعب مع ولاد المخيم"
محمود، بفرح : "جد؟"
محمد : "اه يا حبيبي روح"
خرج محمود من الخيمة راكضًا، جاب شوارع المُخيم مُناديًا أقرانه ليُشاطروه لُعبته المُفضلة ( كُرة القدم ) دقائق معدودة تعالت أصواتهم بتفاوت ذاك يهتف وذاك يُقهقه وذاك يُصفر .. فجأة!! .. سطعَ ضوء أحمر عظيم قاشِعًا بياض السماء، دقائق لا بل لحظات تغير كل شيء؛ وقف محمود غير واعٍ لما يحدث نفرَ الجميع من حوله ذاك يصرخ وذاك يبكي وذاك يدفعه من طريقه وذاك ينهره بالهروب .. ، توسعت حدقت عيناه رُعبًا وهو يرى ألسنة النار تبتلع الخيام الواحدة تلوى الأُخرى؛ صرخَ بكل مافيه : "أخوياا أخويا محمد أخوياا أُختي أُختي".. ، دخل بين أفواج الهاربين وظل يصرخ : "بعدواا بعدواا بدي أخويا وأُختي بعدواا .. ، سقطَ و دهوس ومازال يصرخ وينوح بأخويه راجيًا أن يُنقذوهما،
رباه ما هذا؟
رباه ماذا حدث؟
رباه أ-أذنت لنارِ عدن فوصلتنا؟
أجميع هؤلا الخلائق جاؤ لأرض المحشر؟
رباه أ-أ القيامةُ قامت؟
لصعوبة الطريق والخراب الهائل تأخر الهلال الأحمر؛ تأخروا جدًا ولازالت النار في أوج قوتها وثورانها؛ تعاون الجميع لإخمادها وإنقاذ من أستطاعوا إنقاذه ومن بينهم محمود الذي كلما نوى الدخول بين ألسنة النيران أبعدوه لكن عناده كان أقوى من أجسادهم التي تفوقه قوة وضخامه .. ، غافلهم وركض مُندفعًا بين أسواط النار اللاهبة، زاغت عيناه مما رأى :
أجساد تفحمت
أجساد تيبست
أجساد بلا رؤوس
وجوه ذابت
وعيون طُمست
وجميعهم أطفال
تراخت سقاه ساقطًا على الأرض؛ أخرج ما بجوفه وكاد يُخرج رئاته لشدة روائح الدماء واللحم المُتفحم .. أنتبه بعض الرجال إليه وهبوا لإنقاذه قبل أن تصله النيران، حملوه بين أيديهم تحت مقاومته وصراخه الباكي : "لااا سيبوني سيبوني، أخويا لسه جوه وأُختي كمان، أمانه سيبوني طلعهم أمانه، والله لسه عايشين مامتوش والله سيبوني"
أحد المُسعفين : "ماشي ماشي يا عمو والله هنطلعهم بس أنته إهدا ماشي؟"
محمود : "بديش بدييش أهدا، سسيبوني"
: "احكيلي وين خيمتكو؟"
محمود : "معرفش سيبنيي، أمانه عمو سيببوني بدي خواتي"
: "ماشي شو أسمك؟"
محمود : "محمود وخويا محمد وأُختي خديجة وخيمتنا هان والله هان مش بعيده"
ذهبَ اثنان من المُسعفين للبحث عن محمد وخديجة؛ تاركين محمود داخل سيارة الإسعاف يصرخ ويقاوم على إثرهم،
بعد عناء ومشقة من إخراج الجُثث المُتفحمة وإنتشال أشلاء الشهداء .. ، لفت أنتباههم خيمة حُرق نُصفها والنصف الآخر لازال صامدًا .. ، دخلوا و رأوا شابًا مُلقًى على بطنه تيبسَ جسده وتفحم ما عدا ذراعيه المضمومتان لصدره؛ قلبوه على ظهره، ففوجئوا بطفلة كفلقة البدر لم يُصبها شيء؛ رحل محمد بعد أن ضحَى وفدى بروحه لأجل أخته؛ لتعيش وتكبر وتحقق أحلامها وتُقاتل وتأخُذ بثأر قدسها ووطنها وعائلتها من هذا العدو المُحتل الغاصب،
رحل محمد تاركًا لمحمود الذي لا يفقه ولا يعي إلا اللعب؛ ثقل وحمل لا يقوى عليه بالغ._________________________________________
القصة من نسيج خيالي، رُغم أحداثها الواقعية واللي قاعد يصير حاليًا.
محمد، محمود، خديجة مالهم وجود في الواقع لكن في الكثير من محمد وعشرات العشرات من محمود وخديجة.
ياليت ما تملوا ولا تعتادوا وتستمروا بمتابعة أخبارهم او اي شي يخصهم، ولا يفتر ولا يكل لسانكم عن الدُعاء لهم طول الوقت 🇵🇸._________________________________________