إن اكثر تجربةٍ أكرهها في حياتي، هي تجربة الإكتئاب، والتي لم يكن لي يدٌ في الدخول فيها طواعية مني،أو إختياريا من حيث تجربة شعور المكتئبين مثلا.
لقد مررت بأوقات لا أريد فيها سماع صوت غير صمت الاشخاص بجواري، ولا اريد رؤية أحب الناس الي عيناي وفؤادي والذين كنت لا أملُ من جوارهم وحديثهم، لم أكن أعلم عن تلك الحالة التي بلغتها اي شيء، سوى أنها تنهش روح نهش الوحوش في البريه، تنخُرُ في عقلي، نخر السوس للخشب، ولم يكن في مقدوري فعل شيء سوى الانصياع خلف هواجسي المريضة حين ذاك.
الشعور المُلِحُ بالوحدة والعزلة، إنطفاء الشغف وانقطاع الوصال بين افكار العقل وخفقات الفؤاد، إختفاء البهجة من وجهي كما تخفت النجوم في السماء.
بعدما كان حضوري المبهج والمرح بين اصدقائي واقاربي، اعتزلت تواجدي معها رويدا رويدا حتى صارت القطيعة، بعدما شعرت بأن تواجدي بينهم يثقل على روحي ويخنقني ولا اعلم لذلك سببا مرضيا، فكان إنعزالي هو السبيل الذي ارغمتُ عليه وارتضاني هو الي جواره، تاركا له الحبل على غاربه حتى عاث بالروحِ فسادا.
الوحدة تأكل روحك شيئا فشيئا، وكان من أشدَ المشاعر وطأةً على قلبي المتهالك وروحي الضعيفة الممزقة هو الشعورٍ بفقد الإيمان، واتباع الشك المزلزلُ.
فقدُ الإيمان يبدأُ بما كنت تحبُ، كتاباتك قراءاتك، مشاهدتك وهوايتك المفضله، فتصبح لا تهوى شيئا وتجبر على ممارسة جوفاء منه حتى لا يشعرَ من هم حولك بما اصابك، ثم تفقد الايمان فى أشخاصٍ كانوا لك ملاذا آمنا فى اوقاتك العصبية، فتهرب من مواجهتهم، تحجب عيناك عنهم، وتصم آذانك عن نضائحهم، وترى فيها انتقادا وتشويها لك، لا تدرك كم يتألمون لأجلك ولا تدري أنت كيف تشكي او تسمع او تبكي في احضانهم، تفرُ منهم فرار الجند من الموت في ساحة الموت، تفرُ من الحياة الي الموت، كالذي يفر من ظلال السحاب ليسكن بين دخان النار.ثم تنسلخ من روحك كما ينسلخ النهار من الليل، تخرج من ضياء الحق ونور الحقيقة الى ظلماتٍ بعضها فوق بعض، ثم تبحث عن خلاصٍ لا تبلغه، فتظل تبحث حتى تصل الي قاعٍ مظلمٍ تتيه فيه ضياعا، ويعيث فيك فسادا، فلا تعود دون فقدٍ وإن حاولت جاهدا.
تحاول العودة مز جديد الي ماضيك الذي لم ترتضيه حينها، تتمنى لو أن ما قد اصابك لا يكن الا اضغاث احلام وستنقضي، غير انك فى قلب واقعك المظلم، تبحث عن بصيص امل فلا تجد، تبحث عن طاقة نور فلا ترى، لقد اغلقت كل الأبواب خلفك، واسدلت الستار على النوافذ التى كان الضوء ينفذُ مز خلالها.
تتخبط بين جنبيك ما بين الضياع والخوف، فاقدٍ كل الآمال التي قد جئت تبحث عنها للخلاص، فيصبكُ الحزنُ الذي لا مفرَ منه.
قديما كنت احسبُ ان البكاء على البلايا حزنا، غير ان الحزن الذي يعيش بداخل روحي الأن هو الحزن الذي أخبرنا عنه، وطالونا بألا نحزن.
وحين تفقد كل امالك، وتستنفد كل محاولاتك فى العودة الي حالتك الاولى، أو الخروج من حالك هذا، يأتيك الحزن بما يراه الخلاص من كل شيء.
البكاءُ ضعفٌ فلا تبكي، والصمت بديلا عن الحوار والنقاش الذي يفضي الى تهميش رأيك وقليل إعتبارك.
الوحدة افضل من الجلوس مع اشخاصٍ لا يهتمون لأجلك، ولا يشعرون بما يخالجك من مشاعر واوجاع.
فلا سبيل لعلاج ذلك إلا بالخلاص، والخلاص لا ياتي إلا بالموت.تطوي رسالتك الاخير، وقد افضيت فيها بما يسكن فيك من خوف، لو اخبرت به من قبل، ما كنت بلغت الي اول درجة من الضياع.
تهوي روحك من أعلى الى اسفل، تطير فى الهواء الرحب لتسقط بين أحضان الموت الضيقة، وأعماق البحر المظلم، حتى اذا استيأست منك الحياة، فتحت لك ابواب الموت علي مصرعيها، وها انت على شفا حفرة من النار، إلا أن من بيده مقادير الأمور قد جعل لك مسارا اخر، وارسل اليك ملاكا حارسا، منقذا من الظلمات الي النور، ومن ضيق الحياة الي براح الأمل.
يسحب يداك ثم يحمل جسدك، حتى تصل الي شط النجاة، وما بين شط الحياة وشط الممات امواجٌ عالية كتب عليك ان تتخطاها لتعبر الي وجهتك دون نقص في ايامك او زيادة.ثم يصل اليك عبر رسالتك الأخيرة ما كنت تأمله، فترى الحب والاهتمام فى وجوهٍ انكرته فيها من قبل، وترى النصيحة نجما يضيءُ وقد كنت ترى فيما ظلاما مهينا.
ها هو الخريف يمضي، وسياتي ربيعك دون شكٍ، لتتورقك روحك مز جديد وتزهو وتزهر، وتبلغ مبالغ النضج حتى تثمر ثمارا طيبا حلوا.
ومن ثم توقن أن الجمود في بعض الأحيان يكسرُ صاحبه، وان تتمايل مع الرياح كالأغصان، خيرٌ لك من ان تخلع روحك وتكسرك.الأن وقد بلغت الي نهاية ما بلغت، ومررت بما لم تكن تعمل له حسبان ، حتى إذا وصلت الي خلاصك فهل تعلمت؟
هل تعلم كيف تطبطب على نفسك، وكيف تمسح دمعة روحك، وهل تعرف متى تزجرها إن حادت ومتى تشد على يديها إن وقعت، وتقومها متى لانت، اليوم اعلم أنك قد فطنت الغاية من الامر، والحكاية والتجربة.
البشرُ يا صديقي ليسوا ملائكة بل كلهم خطَّاؤن،فلا تحمل فوق طاقتك ولا تتمادى، كل ما اخطأت فلترجع للصواب، وإن البشر خلقوا ليتعلموا من بعضهم البعض، خلقوا ليكملوا بعضهما بعضا، ليتعارفوا ويتآلفوا، ليعمروا فى الارض دون إفسادها وإن من اشدِّ انواع الفساد فيها إهلاك الروح وإفسادها.
أنت تقرأ
حكاية مرض نفسي
Historia Cortaالخط الفاصل بين العقل واللا عقل ،اول اسباب الغياب عن عالم الواقع الى اللا واقع . حين تصبح مجنونا لا تشعر بشيء ! هل أنت مجنون مثلي؟!