قيمة المعاناة
وفي السادس والعشرين من كانون الأول من سنة 1944، جرى
إرسال الملازم هيرو أونودا، الضابط في الجيش الإمبراطوري الياباني،
إلى جزيرة لوبانغ الصغيرة في الفيليبين. كانت الأوامر التي تلقاها تقضي
بأن عليه إبطاء تقدم قوات الولايات المتحدة الأميركية إلى أقصى حد
ممكن، والثبات والقتال مهما تكن التكلفة، وعدم الاستسلام على
الإطلاق. كان ذلك الملازم وقائده مدركان تماما أنها مهمة انتحارية
في حقيقة الأمر.
وفي شهر شباط 1945، وصلت القوات الأميركية إلى جزيرة لوبانغ
واستولت عليها بقوة كاسحة. فخلال أيام معدودة، قُتل أو استسلم
معظم الجنود اليابانيين، لكن أونودا وثلاثة من رجاله نجحوا في
الاختفاء في الأدغال. ومن
هناك راحوا يشنون حرب عصابات ضد
القوات الأميركية فيهاجمون خطوط الإمداد ويطلقون النار على جنود
فرادى ويهاجمون القوات الأميركية بأية طريقة يستطيعونها.
وفي شهر آب من ذلك العام، أي بعد ستة أشهر، ألقت الولايات
المتحدة الأميركية قنبلتين ذريَّتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي.
88
فاستسلمت اليابان، وبلغت أشد الحروب هولا في تاريخ البشر نهايتها
المأساوية.
إلا أن آلاف الجنود اليابانيين ظلوا مبعثرين في جزر كثيرة في
المحيط الهادي. وكان أكثرهم مختبنّا في الأدغال، على غرار الملازم
أونودا. لم يعرف هؤلاء أن الحرب قد انتهت. لقد واصلوا القتال مثلما
كانوا يفعلون من قبل. كانت هذه مشكلة حقيقية في وجه إعادة بناء
شرق آسيا بعد الحرب، فاتفقت الحكومات على ضرورة فعل شيء ما.
ألقت قوات الولايات المتحدة، بالتعاون مع حكومة اليابان، آلاف
المناشير في منطقة المحيط الهادئ كلها معلنة فيها أن الحرب قد انتهت
وأن الوقت قد حان لكي يعود كل واحد إلى بيته ومثلما حدث مع
كثيرين غيرهم، عثر أونودا ورجاله على بعض تلك المناشير، إلا أنه
قرر على عكس الآخرين أنها كاذبة وأنها فخ تنصبه القوات الأميركية
لجعل مقاتلي الأدغال يظهرون أنفسهم. أحرق أونودا تلك المناشير
وظل مختبئاً مع رجاله، وتابعوا القتال.
مرت خمس سنوات؛ وتوقف إسقاط المناشير، وعاد القسم
الأكبر من القوات الأميركية إلى الوطن. حاول سكان جزيرة لوبانغ
العودة إلى حياتهم الطبيعية، حياة الزراعة وصيد الأسماك. لكن هيرو
أونودا ورجاله واصلوا إطلاق النار عليهم وحرق محاصيلهم وسلب
مواشيهم وقتل من يغامر منهم بالتوغل بعيدًا في الأدغال. وعند ذلك،
قررت حكومة الفيليبين طباعة مناشير جديدة وتوزيعها في الغابات.
كانت تلك المناشير تقول: اخرجوا ! لقد انتهت الحرب. لقد خسرتم
الحرب.
89
لكن الملازم أونودا تجاهل هذه المناشير أيضًا.
وفي سنة 1952، قامت الحكومة اليابانية بمسعى أخير لسحب آخر
الجنود الباقين من أماكن اختبائهم في جزر المحيط الهادي. وفي هذه
المرة، جرى إسقاط صور ورسائل من أهالي هؤلاء الجنود عن طريق
الطائرات، إضافة إلى رسالة شخصية من إمبراطور اليابان نفسه. ومن
جديد، رفض أونودا تصديق أن تلك الأخبار كانت صحيحة. كان
مقتنعًا هذه المرة أيضًا بأن إسقاط تلك الرسائل ليس إلا خدعة من
جانب الأميركيين. ومن جديد، واصل أونودا القتال مع جنوده.
مرت بضع سنوات أخرى؛ وسئم سكان تلك المنطقة في الفيليبين
خوفهم المستمر من هذا الوضع فحملوا السلاح وراحوا يقاتلون أولئك
الجنود. وفي عام 1959 استسلم واحد من رفاق الملازم أونودا، وقتل
واحد آخر. وبعد عشر سنين من ذلك، قتل آخر رفاق أو نودا (كان اسمه
كوزوكا) في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة بينما كان يحرق حقول
الأرز... كان لا يزال يحارب السكان المحليين بعد ربع قرن من نهاية
الحرب العالمية الثانية!
أما أونودا الذي أمضى أكثر من نصف حياته في أدغال جزيرة لوبانغ
فقد صار وحيدا.
وفي سنة 1972، بلغت اليابان أنباء مقتل كوزوكا فسببت ضجة
هناك. كان الشعب الياباني يظن أن آخر الجنود من فترة الحرب قد
عاد إلى البلاد قبل سنوات من ذلك راحت وسائل الإعلام اليابانية
تطرح السؤال التالي: إذا كان كوزوكا قد ظل في جزيرة لوبانغ حتى سنة
1972، فمن الممكن أن يكون الملازم أونودا نفسه، أي آخر جندي
90
ياباني من الحرب العالمية الثانية، لا يزال حيا أيضًا. وفي تلك السنة،
أرسلت حكومتا اليابان والفيليبين فرقًا للبحث عن ذلك الملازم اللغز
الذي صار أسطورة وبطلا وشبحا أيضًا.
لكنهم لم يجدوا أحدًا!
ومع مر الشهور، تحول الملازم أونودا إلى شيء يشبه أسطورة في
اليابان: بطل الحرب الذي يبدو مجنونا إلى حد يجعل من الصعب
تصديق أنه موجود حقا. انتقده البعض؛ وحوّله البعض الآخر إلى
صورة رومانسية؛ في حين رأى آخرون أنه جزء من قصة خيالية اخترعها
أولئك الذين لا يزالون متمسكين بالرغبة في الإيمان باليابان القديمة
التي كفت عن الوجود منذ زمن بعيد.
وفي ذلك الوقت تقريبا، سمع شاب اسمه نوريو سوزوكي اسم
أونودا للمرة الأولى. كان سوزوكي الشاب شخصا مغامرا، مستكشفًا،
وكان هيبيا بعض الشيء. لقد ولد بعد نهاية الحرب، ثم ترك المدرسة
وأمضى أربع سنوات في التجول في أنحاء آسيا والشرق الأوسط
وأفريقيا حيث كان ينام على مقاعد الحدائق وفي سيارات أشخاص
غرباء، وفي زنزانات السجون، وتحت النجوم. كان يعمل في المزارع
مقابل طعامه ويتبرع بالدم حتى يتمكن من دفع المال لبعض الأماكن
التي يبيت فيها. كان صاحب روح حرة، ولعله كان مجنونا بعض
الشيء!
وفي سنة 1972، وجد سوزوكي نفسه في حاجة إلى مغامرة جديدة.
كان قد عاد إلى اليابان بعد أسفاره كلها ووجد المعايير الاجتماعية
الصارمة والهرمية الاجتماعية المحكمة شيئًا خانقا. كان يكره المدرسة.
91
ولم يستطع الثبات في وظيفة من الوظائف. أراد أن يعود إلى ارتحاله
وأن يعود بمفرده مثلما كان.
جاءت أسطورة الملازم هيرو أونودا إجابة على مشكلات
سوزوكي. هذه مغامرة جديدة تستحق الاندفاع فيها! آمن سوزوكي
بأنه الشخص القادر على العثور على أونودا. صحيح أن فرق البحث
التي أرسلتها حكومات اليابان والفيليبين والولايات المتحدة الأميركية
عجزت على العثور على أونودا؛ كما لم يحالف الحظ قوات الشرطة
التي ظلت تمشط الأدغال قرابة ثلاثين عاما. ولم تظهر أية استجابة
لآلاف المنشورات التي ألقيت هناك. لكن، فليكن ما يكون... سوف.
يعثر عليه هذا الهيبي الفاشل الذي ترك الدراسة.
سافر سوزوكي الأعزل من السلاح، الذي لم يتلق أي نوع من
التدريب على أعمال الاستطلاع والتكتيكات القتالية، إلى جزيرة
لو بانغ وبدأ التجول في الأدغال وحيدًا. كانت خطته بسيطة: يصرخ
باسم أو نودا بصوت مرتفع حقا ويقول له إن إمبراطور اليابان قلق عليه.
والعجيب أنه وجد أونودا بعد أربعة أيام!
ظل سوزوكي بعض الوقت في الغابات مع أونودا. في ذلك الوقت،
كان قد مرت سنة تقريباً على بقاء الملازم وحيدا هناك. وما إن صادف
سوزوكي حتى رحّب بصحبته وأظهر توقاً شديدًا إلى معرفة أخبار ما
يحدث في العالم من مصدر ياباني يستطيع أن يثق به. صار الرجلان
صديقين على نحو ما .
سأل سوزوكي الملازم أونودا عن السبب الذي جعله يظل هناك
92
ويواصل القتال. كانت إجابة أونوداً بسيطة لقد تلقى أوامر بعدم
الاستلام أبدا». وهكذا بقي هناك. لقد ظل قرابة ثلاثين عاما ملتزما
بتلك الأوامر ! وقد سأل أو نودا سوزوكي عن السبب الذي يجعل «شابا
هيبيا، مثله يأتي باحثًا عنه. أجابه سوزوكي قائلا إنه ترك اليابان بحثًا عن
ثلاثة أشياء: «الملازم أونودا، ودب الباندا، ورجل الثلج المخيف».
هكذا كان تسلسل الأهداف الثلاثة.
التقى هذان الرجلان في ظل أكثر الظروف غرابة: مغامران عقدا
العزم على ملاحقة صورة زائفة للمجد كأنهما نسخة يابانية حقيقية عن
دونكيشوت و سانشو بانزا؛ رجلان عالقان معا في وسط أدغال الفيليبين
النائية الرطبة يتخيلان نفسيهما بطلين رغم كونهما وحيدين معدمين
تماما، ورغم كونهما لا يفعلان شيئًا هنا كان أونودا قد كرس القسم
الأكبر من حياته حتى ذلك الوقت من أجل حرب غير موجودة. وكان
سوزوكي مستعدًا لتقديم حياته أيضًا. فبعد أن عثر على الملازم هيرو
أونودا وعلى دب الباندا، صار مستعدًا لأن يموت في جبال همالايا بعد
عدة سنوات من ذلك وهو يبحث عن رجل الثلج المخيف.
كثيرا ما يختار الإنسان تكريس قسم كبير من حياته من أجل قضية قد
تبدو ضارة أو عديمة النفع. لا معنى لتلك القضية من حيث الظاهر ! إن
من الصعب تخيل كيف كان ممكنا للملازم أونودا أن يكون سعيدا في
تلك الجزيرة طيلة ثلاثين عاما وهو يعيش على الحشرات والقوارض
وينام على الأرض الترابية ويقتل أشخاصًا مدنيين سنة بعد سنة؛ أو ما
جعل سوزوكي يسير إلى حتفه من غير نقود ولا رفيق ولا غاية غير
ملاحقة رجل الثلج الخيالي.
93
لكن أونودا قال في وقت لاحق من حياته إنه ليس نادما على أي
شيء. قال إنه فخور حقا بخياراته وبالزمن الذي أمضاه في جزيرة
لوبانغ. وقال إنه مما يشرفه أنه كرّس جزء كبيرًا من حياته لخدمة
إمبراطور لم يعد موجودًا. ومن المرجّح أن سوزوكي كان سيقول شيئًا
مماثلا لو أنه بقي حيّا إنه غير نادم على شيء لأنه أمضى حياته في فعل
ما هو مخلوق من أجله.
لقد اختار كل من هذين الرجلين المعاناة التي أرادها. اختار الملازم
هيرو أونودا المعاناة وفاء لإمبراطور ميت واختار سوزوكي المعاناة
من أجل المغامرة بصرف النظر عن جنون مغامراته. وبالنسبة لكل
واحد من هذين الرجلين كان لتلك المعاناة معنى حقيقي لأنها قدمت
في سبيل خدمة قضية كبرى» . ولأنها كانت تعني شيئًا، فقد كانا قادرين
على احتمالها، بل لعلهما كانا مستمتعين بها أيضًا.
إذا كانت المعاناة أمرًا لا مهرب منه ، وإذا كانت مشكلاتك في الحياة
أمرًا لا يمكن تفاديه، فإن السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس «كيف
أوقف المعاناة؟ » بل «لماذا أعاني... ولأي غاية؟ وعلى هذا الجواب
تتوقف قدرتك على تقبل ما تعانيه، أو إيجاد الحل الذي يريحك.
عاد هيرو أونودا إلى اليابان في سنة 1974، وصار له شيء من الشهرة
في بلاده. بدأ ينتقل بين البرامج التلفزيونية والمحطات الإذاعية؛ وصار
السياسيون حريصين على مصافحته ثم نشر كتابا عن حياته. بل إن
الحكومة قدمت له مبلغا كبيرًا من المال.
إلا أن ما وجده عندما عاد إلى اليابان أصابه بالذعر : ثقافة استهلاكية
رأسمالية سطحية ضيعت تقاليد الشرف والتضحية التي نشأ عليها جيله كله.
94
حاول أونودا استخدام شهرته المفاجئة من أجل تعزيز قيم اليابان
القديمة، لكن مجتمعه الجديد أعاره أذنا صماء. كان الناس يعتبرونه
شيئًا للفرجة وليس شخصًا جديًا صاحب فكر: رجلٌ ياباني خرج
فجأة من آلة الزمن لنتفرج عليه كأنه عجيبة من العجائب أو كأنه أثر
قديم في متحف ما.
ولعل المفارقة الكبرى أن الملازم أو نو دا صار أكثر اكتئابا مما كان
عليه في الأدغال طيلة ثلاثين عاما لأن حياته هناك كانت من أجل شيء
ما، على الأقل... كان لها معنى! وهذا المعنى هو ما جعل معاناته شيئًا
يمكن احتماله بل جعلها شيئًا مرغوباً فيه أيضًا. أما بعد عودته إلى
اليابان التي صار يعتبرها أمة من الأشخاص الفارغين الهيبيين والنساء
المتهتكات بملابسهن الغربية، فقد واجهته الحقيقة التي لا مهرب
منها : لم يكن لقتاله أي معنى إن اليابان التي عاش وقاتل من أجلها لم
تعد موجودة. لقد مزقه إدراك هذه الحقيقة أكثر مما فعل به الرصاص
طيلة حياته. بما أن معاناته كلها كانت من غير معنى، فقد أدرك الحقيقة
المخيفة على نحو مفاجئ... ثلاثون سنة من عمره ضاعت هباء.
وهكذا، حزم الملازم أونودا حقائبه في سنة 1980 ورحل إلى
البرازيل فأقام فيها حتى مات.
بصلة إدراك الذات»
إدراك الذات يشبه البصلة. إن له طبقات كثيرة؛ وكلما قشرت هذه
الطبقات، واحدة بعد أخرى، كلما كان من المحتمل أن تذرف الدموع
في أوقات غير مناسبة.
95
فلنقل إن الطبقة الأولى من بصلة إدراك الذات هي فهم المرء الأولي
البسيط لمشاعره وانفعالاته. هنا أشعر بالسعادة». «هذا يجعلني
حزينًا». «هذا يمنحني أملًا».
ومما يؤسف له أن هنالك أشخاصًا كثيرين يفشلون حتى على هذا
المستوى الأولي من إدراك الذات. أعرف هذا لأنني واحد منهم! في
بعض الأحيان، أتبادل مع زوجتي حوارًا مضحكا يسير على النحو
التالي:
هي: ماذا بك؟
أنا لا شيء. لا شيء على الإطلاق!
هي: لا، هنالك شيء ما. قل لي.
أنا : أنا بخير. أنا بخير حقا.
هي: هل أنت واثق من هذا؟ يبدو عليك الانزعاج.
أنا، مع ضحكة عصبية: حقا؟ لا، إنني بخير ... جديًا.
[ تمر ثلاثون دقيقة...]
أنا .... هذا ما يجعلني منزعجا حقا، بل غاضبا ! إن ذلك الشخص
يتصرف معظم الوقت كما لو أنني غير موجود أبدا!
إن لدى كل واحد منا نقاط انفعالية عمياء». وغالبا ما تكون هذه
النقاط العمياء على صلة بمشاعر وانفعالات تعلمنا خلال نشأتنا
أنها غير مناسبة ولا بد من سنين من التجارب والجهد حتى يصير
المرء ماهرًا في تحديد النقاط العمياء في نفسه، ثم يعبر تعبيرا مناسبًا
عن الانفعالات المرتبطة بتلك النقاط العمياء. لكن هذا أمر
الأهمية، وهو يستحق الجهد المبذول من أجله.
غاية
96
وأما الطبقة الثانية من طبقات بصلة إدراك الذات، فهي قدرتنا على
السؤال عن السبب الذي يجعلنا نحس هذه المشاعر والانفعالات
بعينها.
إن أسئلة لماذا أسئلة صعبة ؛ وقد تلزمنا شهور أو سنين حتى
نتوصل إلى إجابة متسقة دقيقة عليها. يحتاج أكثر الناس إلى الذهاب
إلى معالج نفسي حتى يستمعوا إلى هذه الأسئلة للمرة الأولى في
حياتهم. وهي أسئلة مهمة لأنها تلقي ضوءا على ما نعتبره نجاحًا أو
فشلًا. لماذا تشعر بالغضب؟ ألأنك فشلت في تحقيق هدف ما ؟
ولماذا تحس نفسك كسولا متبلدا من غير حافز يدفعك إلى فعل
شيء؟ ألأنك لا ترى نفسك جيدا إلى الحد الكافي؟
تساعدنا هذه الطبقة من الأسئلة في فهم السبب الأصلي للمشاعر
التي تطغى علينا وعندما نفهم ذلك السبب الأصلي، نصير قادرين على
فعل شيء ما من أجل تغييره.
لكن هنالك مستوى آخر في بصلة إدراك الذات مستوى أكثر عمقا.
وهذا المستوى هو ما يسبب ذرف الدموع أكثر من أي مستوى آخر.
إنه مستوى قيمنا الشخصية: لماذا أعتبر هذا الشيء نجاحًا، أو فشلا؟
وكيف أختار أن أقيس نفسي؟ بأي معيار أحكم على نفسي وعلى الناس
الذين من حولي؟
إن الوصول إلى هذا المستوى صعب إلى حد لا يصدق، فهو في
حاجة إلى تساؤل وجهد مستمرين. لكنه المستوى الأكثر أهمية لأن
قيمنا تحدد طبيعة مشكلاتنا، ولأن طبيعة مشكلاتنا تحدد جودة حياتنا.
97
إن القيم كامنة تحت كل ما نحن عليه وتحت كل ما نفعله. إذا كان ما
نعتبره ذا قيمة أمرا غير مفيد، وإذا أسأنا اختيار ما نعتبره نجاحًا، أو فشلا،
فإن كل شيء مبني على تلك القيم الأفكار والانفعالات والمشاعر
اليومية) سيسقط كله. كل ما نفكر فيه وكل ما نحسه تجاه شيء ما،
عائد في آخر الأمر إلى مقدار القيمة التي نجدها في هذا الشيء.
يظهر لدى أكثر الناس عجز مخيف عن الإجابة على أسئلة «لماذا»
هذه إجابة صحيحة؛ وهذا ما يحول بينهم وبين التوصل إلى معرفة أعمق
لقيمهم. من المؤكد أنهم سيقولون إن الصدق، والصداقة الحقيقية،
قیمتان كبيرتان، لكنهم لا يلبثون أن يكذبوا عندما يتحدثون عنك من
خلف ظهرك، وذلك حتى يتحسن إحساسهم تجاه أنفسهم. قد يرى
الناس أنهم يشعرون بالوحدة. وأما عندما يسألون أنفسهم عن السبب
الذي يجعلهم يحسون هكذا، فإنهم يكونون أكثر ميلا إلى البحث عن
طريقة تسمح لهم بإلقاء اللوم على الآخرين (كلهم سيئون؛ لا أجد
أحدا يفهمني). وهكذا فإنهم يمعنون في تفادي مواجهة مشكلتهم بدلا
من البحث الحقيقي عن حل لها.
هنالك أشخاص كثيرون يظنون مخطئين أن هذا هو إدراك الذات.
لكنهم، لو كانوا قادرين على المضي إلى ما هو أعمق من ذلك والنظر
إلى القيم الكامنة لديهم، فسوف يرون أن تحليلهم الأصلي كان قائما
على تجنب تحمل مسؤولية مشكلتهم بدلا من تحديد المشكلة تحديدا
صائبا. كانوا سيرون أن القرارات التي اتخذوها استندت إلى محاولة
البحث عن خلاص سريع بدلا من السعي إلى السعادة الحقيقية.
وأيضًا، يتجاهل معظم مرشدي المساعدة الذاتية هذا المستوى
98
الأكثر عمقا لوعي الذات. فهم يأخذون أشخاصا يشعرون بالتعاسة
لأنهم يريدون أن يكونوا أثرياء فيقدمون إليهم مختلف أنواع النصائح
عن كيفية التوصل إلى جني مزيد من المال، لكنهم يتجاهلون طيلة
الوقت الأسئلة الهامة المستندة إلى القيم: لماذا يشعرون بهذه الحاجة
إلى الثراء أصلا؟ وكيف يقيسون النجاح أو الفشل حين يتعلق الأمر
بأنفسهم؟ أما من قيمة بعينها يمكن التوصل إلى أنها السبب الأصلي
لقلة سعادتهم، وليس حقيقة أنهم لم يستطيعوا شراء سيارة فاخرة حتى
الآن؟
إن القدر الأكبر من النصائح في هذه الحالة ينطلق من العمل على
المستوى الضحل أي الاكتفاء بمحاولة جعل إحساس الناس تجاه
أنفسهم
طيبا على المدى القصير في حين تبقى المشكلات الحقيقية
بعيدة المدى من غير حلّ على الإطلاق. قد تتغير أحاسيس الناس
وأفكارهم، لكن القيم العميقة والمعايير التي يمكن أن يجري تقدير
هذه القيم بها، تظل هي نفسها. هذا ليس تقدمًا حقيقيا. إنه طريقة أخرى
فحسب للحصول على حلول سريعة سهلة.
إن الاستجواب الصادق للنفس أمر صعب. وهو يستلزم أن تطرح
على نفسك أسئلة لا تريحك الإجابة عليها. وبحسب تجربتي، فإن
احتمال أن تكون تلك الإجابات حقيقية صادقة يزداد كلما كانت
الأسئلة غير مريحة لأصحابها.
توقف لحظة، وفكر في شيء يزعجك حقا. والآن، اسأل نفسك
عن السبب الذي يجعل هذا الشيء مزعجًا. هنالك احتمال حقيقي
لأن تشتمل الإجابة على فشل من نوع ما. ثم، تأمل هذا الفشل واسأل
99
نفسك عن السبب الذي يجعله يبدو لك فشلا حقيقيا. ماذا لو أن ذلك
الفشل ليس فشلا في حقيقة الأمر؟ ماذا لو كنت أنت الذي ينظر إليه
بطريقة غير صحيحة ؟
إليكم مثالاً حديث العهد من حياتي الشخصية:
يزعجني كثيرًا أن أخي لا يرد على رسائلي».
لماذا؟
لأن لديه رغبة في عدم الاهتمام بي.
ولماذا يبدو لك هذا حقيقيا؟
«لأنه... إن أراد أن تكون بيننا علاقة، فهو قادر على تخصيص عشر
ثوان من يومه لكي يرد على رسائلي».
ولماذا يبدو لك انعدام وجود علاقة مع أخيك فشلا لك؟
لأننا شقيقان من المفترض أن تكون العلاقة بيننا حسنة».
ثمة أمران يفعلان فعلهما هنا قيمةٌ أتمسك بها كثيرا، ووسيلة قياس
اعتدت استخدامها لتقدير مدى التقدم في اتجاه تلك القيمة.
القيمة التي عندي من المفترض أن تكون بين الأشقاء علاقة طيبة.
والمقياس التواصل عن طريق الرسائل أو الهاتف... هكذا أقيس
نجاحي في أن أكون أخا. إنني أجعل نفسي أبدو فاشلا لأنني أتمسك
بهذا المقياس. وهذا ما يفسد نهاري عادة
يمكننا التعمق أكثر من ذلك من خلال تكرار العملية نفسها:
100
لماذا يفترض أن يكون الأشقاء على علاقة طيبة؟
لأنهم أفراد عائلة واحدة؛ ومن المفترض أن تكون هنالك علاقة
وثيقة بين أفرادها».
ولماذا يبدو لك هذا حقيقيا ؟
آخر».
لأن من المفترض أن تعني لك عائلتك أكثر ما يعنيه لك أي شخص
ولماذا يبدو هذا لك صحيحًا؟
لأن وجود علاقة وثيقة تربطك بعائلتك هو الشيء الطبيعي
و الصحي؛ والحالة ليست هكذا عندي.
لقد كان واضحًا في هذا الحوار أن القيمة الكامنة لدي هي وجود
علاقة طيبة مع أخي، لكني لا أزال أعاني مشكلة في ما يتعلق بوسيلة
القياس. لقد أطلقت الآن على تلك العلاقة صفة أخرى، «علاقة وثيقة»،
لكن المقياس لم يتغير في حقيقة الأمر: لا أزال أحكم على أخوتي
استنادا إلى كثرة التواصل مع أخي وأنا أقارن نفسي مع أشخاص آخرين
أعرفهم مستخدما المقياس نفسه. إن لدى كل شخص آخر (أو هكذا
يبدو لي في هذا المثال علاقة وثيقة مع أفراد أسرته. أما أنا فليست لدي
هذه العلاقة الوثيقة. من الواضح إذا أن لدي شيئًا غير صحيح.
أنت تقرأ
كتاب فن اللامبالاة
Randomلمحة عن الكتاب كتاب فن اللامبالاة: لعيش حياة تخالف المألوف تأليف مارك مانسون .. ظل يُقال لنا طيلة عشرات السنوات إن التفكير الإيجابي هو المفتاح إلى حياة سعيدة ثرية. لكن مارك مانسون يشتم تلك "الإيجابية" ويقول: " فلنكن صادقين، السيء سيء وعلينا أن نتعاي...