الفصل الثامن

41 0 0
                                    


أهمية قول لا

جمعت أغراض شقتي كلها في سنة 2009 فبعت قسما منها وخزنت
قسما آخر، ثم تركت شقتي وانطلقت إلى أميركا اللاتينية. وفي ذلك
الوقت، كانت مدوّنة استشارات المواعدة التي أنشأتها قد بدأت تحظى
بشيء من الإقبال وصرت أجني منها قدرًا متواضعا من المال من خلال
بيع بعض النصوص والدورات على الإنترنت. وكانت خطتي أن أعيش
في الخارج القسم الأكبر من السنوات التي تلت ذلك بحيث أتعرف
على ثقافات جديدة وأستفيد من انخفاض تكلفة العيش في عدد من
البلدان النامية في آسيا وأميركا اللاتينية حتى أتمكن من تقوية عملي.
كان ذلك حلم البدوي الرقمي»؛ وبما أنني كنت باحثًا عن المغامرات
في الخامسة والعشرين من عمري فقد كان هذا بالضبط كل ما أريده
من الحياة.
إلا أن القيم التي كانت خطتي منطوية عليها، رغم ما تبدو عليه تلك
الخطة من جاذبية وبطولة، لم تكن قيما جيدة ولا صحية كلها.
من المؤكد أنني كنت أحمل بعض القيم التي تدعو إلى الإعجاب:
التعطش إلى رؤية العالم، والفضول تجاه الناس والثقافات، وشيء
210
من حب المغامرة على النمط التقليدي. إلا أنه كان لدي أيضًا ظل
الإحساس بالخجل يستبطن كل ما عداه لم أكن أدرك الأمر إدراكا
مع
واضحا في ذلك الوقت لكني إن أردت أن أكون صادقًا تماما
نفسي، كنت أعرف أن هنالك قيمة سيئة معشعشة في مكان ما تحت
السطح. ما كنت قادرًا على رؤية تلك القيمة، لكني كنت قادرًا على
الإحساس بها في اللحظات الهادئة عندما أكون صادقا تماما مع نفسي.
إلى جانب إحساسي الزائد بالاستحقاق في أوائل العشرينيات
من عمري، كانت الأزمة الحقيقة التي عشتها في سنوات مراهقتي قد
خلفت لي حزمة من الأشياء التي صرت ألزم نفسي بها. وقد أمضيت
السنوات القليلة التي سبقت ذلك وأنا أحاول تعويض النقص والقلق
الاجتماعي اللذين عشتهما في سنوات مراهقتي مما أدى إلى جعلي
أحس كما لو أنني قادر على مقابلة أي شخص أريد مقابلته، ومصادقة
أي شخص أريد مصادقته وحب أي شخص أريد أن أحبه، وممارسة
الجنس مع أي شخص أريد أن أمارس الجنس معه ....
.. فلماذا ألزم نفسي
بالبقاء على صديقة واحدة أو على مجموعة اجتماعية واحدة، أو على
مدينة واحدة أو بلد واحد أو ثقافة واحدة؟ إن كنت قادرًا على عيش
كل شيء وتجريب كل شيء، فعليّ أن أعيش كل شيء على حد سواء،
أليس كذلك؟
مسلحًا بهذا الإحساس المتضخم بقدرتي على التواصل مع العالم
كله، رحت أتنقل بين البلدان والمحيطات كأنني في لعبة قفز استمرت
أكثر من خمس سنوات. وقد زرت في تلك السنوات خمسة وخمسين
بلدا، وصار لي عشرات الأصدقاء ووجدت نفسي في أحضان عدد من
211
الحبيبات اللواتي كنت أستبدلهن سريعا، بل أنسى بعضهن حال سفري
إلى البلد التالي.
كانت تلك حياة غريبة ممتلئة رائعة، وكانت زاخرة بتجارب واسعة
إضافة إلى حالات تحليق سطحية مصممة لتخدير ألمي الدفين.
بدت تلك التجارب لى شديدة العمق لكنها كانت عديمة المعنى في
الوقت نفسه؛ ولا تزال تبدو لي هكذا حتى اليوم. لقد اكتسبت بعضا من
أهم دروس حياتي وعشت بعضًا من اللحظات التي كونت شخصيتي
خلال أسفاري في تلك الفترة. لكن تلك السنوات اشتملت أيضًا على
بعض من أكبر مراحل تبديد الوقت والطاقة أيضًا.
أعيش الآن في نيويورك. لدي بيت وأثاث وفاتورة كهرباء وزوجة.
ولا شيء من هذا كله يمكن اعتباره باهرًا أو مثيرا. وأنا أحب أن تكون
الأمور هكذا. وذلك لأن أكبر درس تعلمته من تجاربي بعد سنوات
الإثارة تلك كلها كان كما يلي: الحرية المطلقة لا تعني شيئًا في حد ذاتها !
تمنح الحرية المرء فرصة اكتساب قدر أكبر من المعنى، وأما الحرية
نفسها فليس فيها بالضرورة شيء ذو معنى. وفي نهاية المطاف، يكون
رفض بعض الخيارات هو الطريق الوحيد لتحقيق المعنى ووصول
المرء إلى الشعور بأهمية حياته، أي أنه تضييق للحرية؛ وهو أيضا
اختيار المرء في حياته أن يلتزم مكانًا واحدا أو اعتقادًا واحدا أو...
شخصا واحدا !
لم يأتني هذا الإدراك إلا على نحو بطيء خلال سنوات الترحال
تلك. وكما يحدث في معظم إفراطات الحياة، يكون عليك أن تغرق
نفسك فيها حتى تدرك أنها لا تجعلك سعيدًا. هكذا كان الترحال بالنسبة
212
إلي. فمع وصولي إلى البلد الثالث والخمسين، ثم الرابع والخمسين،
ثم الخامس والخمسين، بدأت أفهم أن قلة من تجاربي، رغم كونها
كلها تجارب عظيمة مثيرة، كان لها مغزى حقيقي باق. وفي حين كان
أصدقائي الذين تركتهم في الوطن يستقرون ويتزوجون ويشترون بيوتا
ويمنحون وقتهم واهتمامهم لتأسيس شركات هامة أو لقضايا سياسية،
كنت أقفز من مخرج سهل سريع إلى مخرج سهل سريع آخر.
وفي سنة 2011، سافرت إلى سان بطرسبرغ في روسيا. كان الطعام
سيئًا. وكان الطقس سيئا أيضًا. (ثلج) في شهر أيار؟ هل تمزحون؟)
وكانت شقتي سيئة. ولم أجد أي شيء جيد. كانت الأسعار باهظة.
والناس أجلافًا لهم رائحة غريبة. لم أجد أحدا يبتسم. وكانوا يكثرون
الشراب كلهم... لكني أحببت ذلك. كانت رحلتي إلى تلك المدينة
واحدة من أفضل رحلاتي.
إن في الثقافة الروسية قدرًا من الصراحة الخشنة التي يفهمها
الغربيون عامة على نحو خاطئ. لا أثر هناك للتلطف الزائف والتأدب
اللفظي الذي يلفك عندنا من كل ناحية مثل شباك العنكبوت. لا يبتسم
الإنسان هناك لأشخاص غرباء ، ولا يتظاهر بأنه يحب شيئًا لا يحبه. في
روسيا، إن كان هنالك شيء غبي فإنك تقول عنه إنه شيء غبي. وإذا
رأيت شخصا تافها أحمق، فأنت تقول له إنه تافه أحمق. وإذا أعجبتك
فتاة ووجدت أنك تمضي معها وقتاً جميلا، تقول لها إنها تعجبك وإنك
تمضي معها وقتاً جميلا. لا فرق إن كانت تلك الفتاة صديقة لك أو
غريبة أو امرأة قابلتها في الشارع منذ خمس دقائق فحسب.
خلال أسبوعي الأول هناك، وجدت هذه الأشياء كلها مزعجة حقا.
213
ذهبت لأشرب القهوة مع فتاة روسية. وبعد ثلاث دقائق من جلوسنا
معا، نظرت الفتاة إليَّ نظرة غريبة وأخبرتني بأن ما قلته لتوّي شيء غبي.
كدت أغص بالقهوة. لم يكن في طريقة قولها تلك الملاحظة أي شيء
عدواني، بل قالتها كما لو أنها تذكر حقيقة من حقائق الحياة العادية...
كأنها تتحدث عن الطقس في ذلك اليوم أو عن مقاس حذائها ... لكني
ظللت مصدوما. وهذا لأننا في الغرب نعتبر هذه الصراحة سلوكًا
عدائيا إلى حد كبير، خاصة إذا بدر عن شخص قابلته منذ قليل فقط.
لكن الأمر هناك كان هكذا مع الجميع. كانوا كلهم مباشرين طيلة
الوقت. ونتيجة ذلك، صار دماغي المبرمج على الطريقة الغربية يشعر
بأنه مُهاجم من كل ناحية بدأ إحساسي بقلة الأمان يطفو إلى السطح
في حالات وأوضاع لم أصادفها منذ سنين.
لكن الأسابيع تتالت فاعتدت الصراحة الروسية مثلما اعتدت أن
تغرب الشمس في منتصف الليل واعتدت شرب الفودكا يشربونها هناك
مثلما تشرب الماء البارد. وعند ذلك، بدأت أدرك الأمر على حقيقته:
إنه التعبير الصرف الذي لا يخالطه شيء. إنه الصدق بكل معنى هذه
الكلمة. وهو التواصل من غير شروط أبدًا ومن غير التزامات ومن غير
دوافع خفية... لا أحد يتصرف معك كأنه يحاول أن يبيعك شيئًا، ولا
أحد يبذل محاولات يائسة لكي يعجب الآخرين.
بعد سنوات من الترحال المستمر ،صرت، على نحو ما، في ما قد
يكون أكثر الأماكن بعدا عن أميركا فعشت لأول مرة، نكهة خاصة
للحرية: القدرة على قول ما أراه أو أحسه من غير خوف من أية تداعيات.
كان هذا نوعا غريبا من التحرر عن طريق تقبل الرفض. وبما أنني
214
شخص عاش معظم حياته محروما من هذا النوع من التعبير الواضح
الصريح (نتيجة الحياة العائلية ذات الانفعالات المكبوتة أول الأمر،
ثم من خلال تظاهري بالثقة الذي أنشأته بكل عناية)، فقد أسكرني هذا
كأنه نوع من أفخر أنواع الفودكا انقضى الشهر الذي أمضيته في سانت
بطرسبورغ سريعًا كأنه البرق. وعندما انتهى وجدت نفسي غير راغب
في الرحيل.
إن السفر أداة رائعة لتطوير الذات لأنها تنتزعك من قيم ثقافتك
وتجعلك ترى أن هنالك مجتمعا آخر يستطيع العيش بقيم مختلفة تمام
الاختلاف وينجح في ذلك من غير أن يكره أفراده أنفسهم. إن هذا
الاحتكاك بقيم ثقافية مختلفة، وبمقاييس مختلفة، يرغمك على إعادة
النظر في ما كان يبدو لك واضحا في حياتك، وكذلك على التفكير في
أن أسلوب حياتك قد لا يكون بالضرورة أفضل أسلوب للحياة. وفي
حالتي هذه، جعلتني روسيا أعيد النظر في أسلوب التواصل ذي اللطف
الزائف الذي هو شائع كثيرًا في الثقافة الإنجليزية، وجعلتني أتساءل في
نفسي إن كان هذا يجعل الواحد منا أقل إحساسًا بالأمان تجاه الآخرين
وأقل قدرة على العلاقة الحميمة معهم.
أتذكر أنني ناقشت ذات يوم هذه الآلية مع الشخص الذي كان
يعلمني اللغة الروسية. وقد كانت لديه نظرية أثارت اهتمامي بما
أن الروس عاشوا في ظل الشيوعية بضعة أجيال، وكانت الفرص
الاقتصادية أمامهم قليلة أو معدومة تماما، إضافة إلى كونهم محبوسين
ضمن ثقافة الخوف، فقد وجد المجتمع الروسي أن الثقة
الأكثر قيمة. وحتى تبني الثقة فلا بد لك من أن تكون صادقاً. هذا يعني
هي
العملة
215
أنك ترى الأمور سيئة فتقول ذلك من غير أية محاولة لالتماس الأعذار.
وقد كان إظهار الناس هذا النوع غير السار من الصدق مفيدا لسبب
بسيط ألا وهو أنه كان أمرًا ضروريًا من أجل البقاء: يجب أن تعرف من
يمكنك الاعتماد عليه ومن لا يمكنك الاعتماد عليه؛ وعليك أن تعرف
هذا بسرعة.
ويتابع معلمي الروسي شرح فكرته فيقول إن في الغرب «الحر»
وفرة كبيرة من الفرص الاقتصادية، بل فيضًا من الفرص الاقتصادية
التي تجعل من الأكثر قيمة لك أن تقدم نفسك بطريقة معينة، حتى وإن
كانت تلك الطريقة زائفة، بدلا من أن تتصرف مثلما يتصرف الروس.
لقد فقدت الثقة قيمتها. وصارت المظاهر والقدرة على الترويج أكثر
طرق التعبير فائدة صارت المعرفة السطحية بعدد كبير من الناس أكثر
فائدة من معرفة عدد محدود من الناس معرفة وثيقة.
هذا ما جعل المعيار المتبع في الثقافات الغربية هو أن
تبتسم
للآخرين وأن تقول لهم أشياء لطيفة مهذبة حتى عندما لا تشعر برغبة
مع
في فعل ذلك؛ وأن تكذب كذبات بيضاء صغيرة وتبدي اتفاقك
شخص لا تتفق معه في واقع الأمر. هذا ما يجعل الناس يتعلمون
التظاهر بأنهم أصدقاء لأشخاص لا يعجبونهم في واقع الأمر؛ وهذا
ما يجعلهم يشترون أشياء لا يريدونها في واقع الأمر. إن طريقة عمل
النظام الاقتصادي يشجع على هذا النوع من الخداع.
لكن الجانب السيء في هذا هو أنك لا تعرف أبدا، في الغرب، إن
كان يمكنك أن تثق ثقة تامة بالشخص الذي تتحدث معه. بل إن الأمر
يكون هكذا أحيانًا حتى بين أصدقاء حقيقيين، وحتى بين أفراد الأسرة
216
الواحدة. تجد نفسك في الغرب واقعا تحت ضغط كبير حتى تعجب
الآخرين مما يجعل الناس يعيدون رسم شخصيتهم كلها بحسب
الشخص الذي يتعاملون معه.
الرفض يجعل حياتك أفضل
كنوع من الامتداد لثقافتنا، ثقافة الإيجابية/ الاستهلاك، يجري
«تلقين كثيرين منا اعتقادًا مفاده أن علينا محاولة أن نكون إيجابيين
متقبلين على نحو أصيل وإلى أقصى حد ممكن. هذا هو حجر الزاوية
لكثير من تلك الكتب التي يطلقون عليها اسم كتب التفكير الإيجابي
انفتح على الفرص، واقبل، وقل نعم لكل شيء ولكل شخص، وهلم
جرا.
لكن علينا أن نرفض شيئًا ما، وإلا فإننا نغدو من غير معنى. إذا لم
يكن هنالك شيء أفضل من شيء آخر، أو مرغوبا لدينا أكثر من شيء
آخر، فنحن أشخاص فارغون يعيشون حياة لا معنى لها. نحن أشخاص
من غير قيم نعيش حياتنا من غير غاية.
غالبا ما يجري تقديم تجنب الرفض (أن أرفُض وأن أرفض إلينا
باعتباره سبيلا إلى أن نحس أنفسنا في حال أفضل. لكن تجنب الرفض
يعطينا تلك المسرة قصيرة المدى من خلال جعلنا من غير دفة ومن غير
توجه على المدى البعيد.
إن كان لديك تقدير حقيقي لشيء ما، فعليك أن تقتصر عليه. وهنالك
سوية ما من الفرحة والمعنى لا تصلها في حياتك إلا عندما تكون قد
أمضيت عشرات السنين وأنت تستثمر وقتك وطاقتك في علاقة واحدة
217
أو مهنة واحدة أو هواية فنية واحدة وأنت غير قادر على الوصول إلى
تكريس هذه السنوات كلها لذلك الشيء من غير رفض خيارات أخرى.
يتطلب قيامك باختيار قيمة ما لنفسك أن ترفض قيمًا أخرى. فإذا
اخترت جعل زواجي أهم جزء من أجزاء حياتي، فإن هذا يعني أنني
( على الأرجح) أختار ألا أجعل المجون والتهتك جزءا من حياتي. وإذا
اخترت أن أحكم نفسي انطلاقا من قدرتي على إقامة علاقات منفتحة
مبنية على القبول المتبادل، فإن هذا يعني أنني أرفض التخلي عن
أصدقائي والإساءة إليهم خلف ظهورهم. هذه كلها قرارات صحية،
لكنها تستلزم ممارسة الرفض عند كل منعطف.
الفكرة كامنة هنا: علينا كلنا أن نهتم بشيء ما حتى نستطيع أن نرى
فيه قيمة. وحتى نرى في أمر من الأمور قيمة، علينا أن نرفض ما هو ليس
في ذلك الأمر. لا بد لي من رفض كل ما هو ليس «س» إذا أردت أن
أجعل «س» قيمة لي.
وهذا الرفض جزء ضروري لا يتجزأ من محافظتنا على قيمنا، أي
على هويتنا. ونحن نتحدد بما نختار أن نرفضه. أما إذا لم نرفض شيئًا
(قد يكون هذا نتيجة خوفنا من أن تُرفَض) ، فهذا يعني أنه ليست لنا هوية
على الإطلاق.
وأما الرغبة في تجنب الرفض مهما تكن التكلفة، والرغبة في
تجنب المواجهة والنزاع، والرغبة في محاولة قبول كل شيء على قدم
المساواة وجعل كل شيء منسجما ومتناسقا، فهي حالات عميقة خبيثة
من أشكال الشعور الزائد بالاستحقاق. فبما أن أصحاب هذا الشعور
الزائد بالاستحقاق يرون أنهم يستحقون أن يروا أنفسهم أشخاصا

كتاب فن اللامبالاة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن