الفصل الثاني
(بين جمرتين)| السفينة |
¦ صيف ١٠٧٩ ج ¦«الوليد، هذا لقبك، فلا عائلة لك كي تُسمى بها».
في ظلمة الليل البهيم وتحت ستاره الأخير، كان ريبال مستسلمًا في فراشه، يغوص في بحرٍ من جديد، بحر من الأحلام المظلمة، كوابيس تتسلل إلى سكونه كتسلل الفجر بين ثنايا الليل وتعبث بأمانه واطمئنانه، تقض مضجعه وتؤلمه. يتقلّب ذات اليمين والشمال والعرق يتصبب منه. يده اليمنى تتدلى من الفراش، واليسرى مرتفعة كما لو كانت تدعو. عنا لمرضه وأَن، ولولا التصاق شفتيه لتفجرت أناته وأخرج هذيانه يصدح كصداح ذياد وهو يشخر بجانبه.
كان قد نام متأخرًا، كان قد نام تائهًا خائفًا، نام متحمّلًا لمسؤولية وحاملًا لخبرٍ لا يسر. كان قد نام مكروبًا يستذكر غرقه في صباح اليوم. نام بعد أن لبى طلب السيد راكز الذي أمره بالحضور منذ ساعة.«أخفتني سيد راكز! ما الأمر؟». حينها - قبل ساعة من نومه - كان خائرًا كجسده. صوتٌ مبحوح من فمٍ جاف.
- «ذياد بن الأَخطَل لم يشفَ بعد. حاله ليس كحالك يا أيها الوليد؛ أنت فولاذ». صوت راكز لم يكن كصوت ريبال إطلاقًا، ولكن كان بينهما مشترك وحيد، الخفوت لدرجة الهمهمة. أضاف خافضًا لعينيه وصوته: «الأمر مؤسف». نطق الكلمات بثقل، والأمر كذلك بالنسبة لريبال الذي لم ينطق حروفًا بسهولة طيلة اليوم المنصرم، وكأن لسانه احتفظ بماء البحر وثقل. «ومخزي لأطبائنا». أضاف.لا يفهم ريبال ما ينوي السيد راكز قوله. ما المحزن؟ ما بال ذياد؟! لقد كان معه في المشفى قبل ساعة، لقد تركه نائمًا منذ نصف ساعة، لقد تحدث معه - باقتضاب - وحاله يبشر بالخير على النقيض من تعابير راكز المؤسفة. بالتأكيد سيكون منهك؛ لم يمضِ على عودته الكثير، سويعات من الليل وفقط.
تساءل بداخله: ‹هل حاله أسوأ مما رأيت؟!›. إنه يخشى تهاونه في الحكم على ما بدى عليه ذياد، لكن ما الغريب في وجهٍ ملأته تجاعيد المرض وشحوبة الأموات، وما الغريب في جسدٍ يميد مع نسمات الرياح كغصنٍ أعوج لشجرة صفصافٍ فتية. لا يرى هذا غريبًا لأنه يعيشه، يرى ذياد كرؤيته لنفسه ويعتقد أنه يشعر كما يشعر هو، لذا لا يرى هذا غريبًا، فقال متسائلًا: «أهناك شيء أكثر خطورة من الاستيقاظ تحت الماء؟». بدى كلامه وكأنه عتاب أو تذمر إلا أنه لم يقصد، أنه يحاول أن يقول أن المرحلة الأصعب قد مضت وما تبقى لن يكون أقسى من الاختناق. ورغم أن راكز فهم المعنى الأخشن إلا أنه اكتفى بالصمت؛ الوقت غير مناسب لكلامٍ آخر، وإلا لن يسكت شخصٌ مثله على هذه الهفوات.
انسلت كلمات راكز محمّلة بالوجوم: «ذياد قد يموت». قال وتمنى لم يقل، قال وسمع ريبال وتمنى لم يسمع، تمنى لو أن أُذنيه خانتاه، وهي تفعل هذا كثيرًا للمرضى. تمنى أن ما سمعه دعابة، فالسيد راكز قد تبدر منه هذه التصرفات، أو هذا ما يظنه - بذاكرة مشوهة - على الأقل، لكن أي مزاح الآن! ليس والفجر على الأبواب، وليس في غرفةٍ مظلمة في أقصى مشفى "السفينة"، وليس من وجهٍ حزين لرجلٍ قلّما يحزن وقد استبد به الأرق وجاهد النوم ليبقى متيقظًا لأجل هذه اللحظة لينقل الخبر الثقيل. لكن...