استيقَظَ في صباحٍ روتينيٍّ لا يُميِّزُهُ عن أيَّامِ الشِّتاءِ الكئيبةِ شيءٌ. فَتَحَ عينيهِ على سقفِ غرفتِهِ الذي اعتادَ أنْ يكونَ مُبهِجًا، فقد دَهَنَهُ بلونِها المُفضَّلِ ليتذكَّرَها حتَّى في سريرِهِ، فتكونُ ذِكراها أوَّلَ ما يبدأُ بهِ يومَهُ وآخِرَ ما يراهُ قبلَ سُباتِهِ اليوميِّ.
ولكنْ لِنَكُنْ واقعيِّينَ، مَنْ يَخدَعُ؟
فكلُّ ما في الوجودِ يُذكِّرُهُ بها، وكلُّ نسمةِ هواءٍ تَفشي بحُبِّهِ لها. جَلَسَ على زاويةِ سريرِهِ مُحاوِلًا استجماعَ ما لديهِ مِنْ قوَّةٍ واتِّزانٍ، فهو لم يَنَمْ بشكلٍ صحيحٍ منذُ شهورٍ. فهيَ تُطارِدُ أحلامَهُ وتتطفَّلُ عليها بفُستانِها الأبيضِ البسيطِ وشعرِها الكستنائيِّ الطويلِ. تخترِقُ دِفاعاتِ قلبِهِ بتلكَ الابتسامةِ الفاتنةِ وببريقِ عيونِها البُنِّيَّةِ التي لا تعرِفُ للُعبةِ الحُبِّ قواعدًا ولا ترى حاجةً للقوانينِ. همُّها الوحيدُ هو زعزعةُ قلبِهِ المِسكينِ والتسبُّبُ بزوبعةِ عواطِفِهِ الجيَّاشةِ أصلًا. تُحِبُّ أنْ تراهُ مُتعَبًا مُرهَقًا عَطِشًا لحُبِّها واهتمامِها، فتُهاجِمُهُ معظمَ الوقتِ ببرودِها وانشغالِها المُصطنَعِ أحيانًا. لقد عَرَفَها باردةً ولا تكترِثُ للحُبِّ، لا تراهُ أكثرَ مِنْ مُغامرةٍ تُريدُ خوضَها لتقولَ في قائمةِ أمنياتِها الأخيرةِ أنَّها قد أحبَّتْ يومًا. رَغمَ معرفتِهِ الوثيقةِ بكلِّ هذا، دخلَ لُعبتَها، ووضعَ على طاولةِ الرِّهانِ قلبَهُ الأعزلَ في مُواجهةِ اضطراباتِها النفسيَّةِ وتقلُّباتِ مشاعرِها اللحظيَّةِ.
صفعَ خدَّيهِ ليُنَبِّهَ عقلَهُ الخَدِرَ بأنَّ يومًا جديدًا قد بدأَ، ولعلَّهُ يكونُ يومَ استقلالِهِ المنشودِ مِنْ أغلالِ تعلُّقِهِ بها. تفقَّدَ هاتِفَهُ كالعادةِ ليرى إذا ما وصلَتْهُ رسالةٌ أو لا سَمَحَ اللهُ مُكالمةٌ مِنها، رغمَ يقينِهِ أنَّها لنْ تُبادِرَ بالاهتمامِ ولو لِمرَّةٍ. ونهضَ مِنْ جَلستِهِ العِتابيَّةِ لقلبِهِ، ليُجَرجِرَ معهُ في كلِّ خُطوةٍ أطيافَ ذِكراها. غَسَلَ وجهَهُ ونظرَ في المِرآةِ يتأمَّلُ حالَهُ أو علَّهُ يبحثُ فيها عن ذلكَ الشابِّ الصغيرِ المُتوغِّلِ بالحُبِّ والرَّغبةِ الذي دارَ وراءَها لأشهُرٍ وفكَّرَ ليالٍ بكيفَ يُغريها أو يجذِبُ انتباهَها، حتَّى باتَتْ أعظمَ انتصاراتِهِ. نظرَ في عيونِهِ يبحثُ عن روحِهِ التي أحبَّتْها فلم يَرَ سوى عيونٍ مُنطفئةٍ مُرهَقةٍ مُكلَّلةٍ بهالاتٍ عميقةٍ حَفَرَتْ حدودَ عيونِهِ السوداءِ الحادَّةِ. رجلٌ طويلُ القامةِ عريضُ المنكبَينِ ناجحٌ في عملِهِ وذو شخصيَّةٍ تأسِرُ القلوبَ بنظرةٍ دونَ الحاجةِ لكلماتٍ مُبتذلةٍ أو مُبتكَرةٍ.
تساءلَ بحسرةٍ: "ما الذي أوصلَني لهُنا؟"
مُعلِنًا بسؤالِهِ بدايةَ مُحاكمةٍ معهودةٍ بينَ عقلِهِ وما تبقَّى بهِ مِنَ الحِسِّ السليمِ وبينَ قلبِهِ القاضي الجائِرِ الذي يفوزُ في كلِّ مرَّةٍ. رغمَ قوَّةِ الأدلَّةِ وثُبوتيَّتِها إلَّا أنَّ محكمةً يقودُها قاضٍ فاسدٌ لنْ يفوزَ بها الادِّعاءُ وإنْ مَلَكَ مِنَ الأسبابِ ما يقلِبُ دولةً عظيمةً بأركانِها.
![](https://img.wattpad.com/cover/372490424-288-k999884.jpg)
YOU ARE READING
عشوائياتي
Randomلَيْسَتْ رِوَايَةً وَإِنَّمَا مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمَشَاعِرِ الْعَابِرَةِ الْمُتَمَرِّدَةِ الَّتِي أَبَتْ أَنْ تَمُرَّ مُرُورَ الْكِرَامِ فَتُنْسَى، طَالَبَتْ بِحَقِّهَا بِالظُّهُورِ وَالتَّعْبِيرِ، فَأَعْطَيْتُهَا هَذِهِ الْمَسَاحَةَ لِتَتَوَقَّف...