تلفتت نهلة حولها في توتر وقلق بالغين ، فعلى الجهة الأخرى التي ترمي إليها عيون المحدقين اتجه بصرها ، تجمدت ملامحها وحاولت السيطرة على انفعالاتها مؤقتا ، اقتربت من الملاءة البيضاء التي تغطي جسدا تحتها تنبعث منه الدماء اللزجة ملطخة كل الأنحاء ، رفعت طرفها في أنفاس متلاحقة مسموعة صمت لها من حولها .
وتكشف الوجه الذي توقعته ، لكنها لم تستطع أن تتحامل على قدميها فخارت قواها على أقرب مقعد إليها .
فتحت هذه الملاءة كان يركد جثة هامدة والدماء تحيط به بغزارة ، وعلى رقبته تلك ...
تلك ....
تلك الابتسامة الأخيرة التي أخبرها أنها ستنال من الجميع .!
*******
قبلها ب٦ أشهر ...
أغمضت نهلة عيناها في سكون وعادت لتفتحهما في بطء لعل ما عايشته كان وهما أو كابوسا على وشك الانتهاء والمضي .
شردت في أمواج البحر أمامها ، عقلها أصبح مضطربا ، هناك خواء بداخلها ، كل شيء قد مات اللهم إلا ذلك الألم الذي يلازمها صباحا ومساء حتى في أحلامها ، وخزه مميت كسم الأفاعي يسري في أوردتها وينسلخ من لحمها ببطء كسكين حمى على النار ثم علق في ثوب من الصوف .
لا شيء يعبث بداخلها سوى الهواء كتمثال مفرغ تركوه قائما وانفضوا.
لا تدري هل رحلت أمها فعلا ورحل خالد أم أن كل ما تحياه هو وهما ؟ ولم لا تستطع نسيانهما الأن حتى يسكن ذلك الألم ؟.
عندما كانا موجودين خانها عقلها وحذفهما والأن وقد رحلا يأبي خائنها النسيان.
ربما هي في وهم قد خلقه عقلها المريض وأختبرها به ؟ أم أنه اختبار أقوى من عند الله ؟.
لم تعد تدري ...
حتى عيناها خذلتاها وتأبى المطر ، أصبحت متحجرة من بعدهما ، نضب ماؤها فأستحال الغيث.
" نهلة , نهلة ".
قاطعها من أفكارها صوت سعيد الذي تنبه لشرودها والذي أصبح عدوه اللدود في الأونة الأخيرة .
سعيد الذي يبذل قصارى جهده لإخراج نهلة من وحدتها وصمتها الدائم.
نهلة ... التي أنطفأ بريقها وخبت لهفتها للحياة وتحول شغفها إلى استسلام .
" نهلة حبيبتي ، انتي عارفة أني عاملك مفاجأة حلوة اوي وها تعجبك إن شاء الله لما نرجع اسكندرية ".
ابتسمت نهلة في صعوبة وأومأت برأسها ثم عادت لشرودها.
وأية هدية تلك التي قد تفرح قلبا ميتا وروحا تنتظر أمر رحيلها لتزيح ألما استقر بداخلها ؟.
" أين ذهب اصطناعك يا نهلة ؟، أقنعتك قد تهاوت وكأن لاصقها لم يعد متماسكا كما كان ، أصبح وجهك الأن فاضحا عما يكمن بداخلك ، مشاعرك ترى بسهولة وكأن .... وكأن الحقيقة صارت أسهل من الخداع بمرها ولاذعتها وأشواكها ، لم تعودي محنكة كما الماضي " .
نهضت من مكانها فجأة وكأنها قد أصابت شيئا من النداهة ، تمشت بمحاذاة الشاطئ ، عيناها الجذابة صارت تجويفا ليس إلا ، جفونها مثقلة تنفتح وتنغلق في بطء كامرأة كهلة قد تخطت المائة من عمرها.
بدأت الشمس في الإدبار وحل الغروب على المكان ، وقفت أمام الشمس في سكون مهيب كالتمثال لا يتحرك منها سوى فستانها المتطاير الذي تعبث به الرياح والأمواج.
تمنت لو بكت ، لو بقي لها من مطرها القديم شيء ...
شيء يخفف من تنهيداتها الحارة وألمها المزمن.
عيناها المتحجرة العنيدة أبت وكأنها قد انفصلت بكيانها عن باقي جسدها .
من بعد خالد لن تهدر الدموع ... لن تهدر أبدا ، هكذا هو وعدها .
" أين أمي من كل ذلك ، أه لو كانت هنا ، لو تأتي حتى دونما الكلام ، رائحتها فقط كفيلة بهروب المشاكل وإحلال السلام ، جلستها الهادئة ونظرتها الحانية كفيلة برفع معنوياتي وطمأنينتي ."
وضعت يدها على قلبها لم يعد يخفق كما المعتاد في حزنها ، لا ردة فعل منه على أوجاعها ، ينبض لتحيا فقط
....
كل ما يحيط بها الآن هو الصمت ...
الصمت القاتل الذي لم تختبره من قبل ؟!.
ذلك الذي تسمع فيه أصوات الطبيعة والكون وحتى الرياح .. كل شيء ما عدا صوتك وكأنك جسدا طافيا على صفح الماء دون روح .... لا تشعر بطيور النورس وهي تنقر في أصابع قدميك ، لا تحس بأشعة الشمس الحارقة في عينيك ... لا توخز جلدك كما الماضي ، جسد فقط يمضي بلا وجهة تأخذه موجة وتطوح به أخرى .
لكنك للأسف جسدا يمتلك ذاكرة تمر أمامه كشريط الفيديو بكل ما تحتويه من سوء.
*******
" عزيزتي ندى ;
بعد التحية....
أكتب لك وأنا أعلم أنك ستتألمين لقراءة خطابي هذا ، وأعلم كم تكنين لي في داخلك من عتاب أليم .
أعلم أنني سأغدو في عينيك قليلة الشأن وضيعة الأصل بعد خطابي هذا.
لكن لي العذر صدقا فيما أفعله ، فبعد أمي وخالد ما عدتأريد حبا ولا قربا ولا صداقات.
تلك العلاقات التي لا تترك إلا ألما ما عدت أريدها بعد ، فأنتم ترحلون وحدكم دون تمهيد تاركين قلبي خلفكم ينازع ما بين الحياة الخبيثة التي تتشبث به وما بين الموت الذي يسرى في أوردته متمثلا في ألآمي.
عزيزتي ندى أنا أعاني سكرات الموت يوميا بل في كل دقيقة ولا أموت.
عقلي يأبي النسيان وقلبي يأبى المضي قدما وأنا بين الأثنين أحتضر بلا موت.
فعذرا إن رأيت مني مالا يسرك وما لم تتوقعي حدوثه ، فتهربي منك لم يكن إلا بعض السلام داخلي رغم اشتياقي لك وللبكاء في أحضانك إلا أن هذا أفضل لي ولك.
تمنيت يا صديقتي في الماضي أن تجف دموعي ، فكثيرا ما كانت تسقط أمام من لا يستحقون رؤيتها ، عرتني من قوتي أمامهم فتلذذوا بهطولها، فبغضتها وتمنيت زوالها ، وها هي قد تركتني للأبد ، جفت دموعي يا ندى ، جف المطر الذي كان يروح عني وأستند عليه .
سامحيني يا صديقتي العزيزة المخلصة فيما سأقوله :
لا أريد صداقتك بعد الأن ... لا قربا ولا حبا ولا حتى سؤالا ، أمحيني رجاء من ذاكرتك ودعيني أتنفس ما بقي لي من عدد أنفاسي بدون أن ألمح وجعك أو ألمك لحالي .
رأيتك في المستشفى وفي البيت كيف تتألمين لأجلي بلا صوت وكأنك صرت جسدا بلا روح .
وأنا لا أحتمل تألمك علي ولن أحتمل رحيلك يوما لا قدر الله أن يكون قبلي ، ستكونين حينها جحيمي ، فليس من العدل أن أشاهد رحيلكم دوني وأنا عاجزة أن أمضي مثلكم .
سامحيني يا توأما لروحي لن أنساه يوما.
المعذبة نهلة