٢

8 1 0
                                    

قل للرياح تأتي كيفما شاءت
فما عادت سفننا تشتهي شيئا 
لا موج يرهبنا فحياتنا ضاقت 
ولا روح تسكننا كي نرتعد خوفا
فأترك يدك عنها علها جاءت
كي تنفض الكذب عمن حولنا نفضا



" عيلة أبوكي يا نهلة ، دوري عليهم ، ده العنوان  ".

رنت كلمات الرسالة النصية الأخيرة في عقل نهلة وكأنها تسجيل صوتي يعيد نفسه تلقائيا . 

أعادت النظر مرة أخرى في الورقة التي بين يديها وتحوي عنوان أبيها الحقيقي الذي دون في الرسالة الأخيرة . 
ارتقت درجات السلم وهي تتأمل جدران البيت العتيق ، تشتم رائحة الرطوبة الواضحة فيها والتي لم تزعجها بقدر ما أزعجت قلبها الحزين الذي لم يكتب له الإحساس بوالدها أو حتى رؤيته في الحقيقة ولو لمرة واحدة . 

هذا البيت المتهالك قد ضم يوما بين جنباته رجلا كان السبب في وجودها رغم أنها لا تحمل إسمه بعد . 

التفتت نهلة للخلف لتتفاجأ بشخص ما وراءها ، لم تحس به في انشغالها ، رجل عجوز وجهه مثل البيت يحمل خريطة كاملة للذكريات قد حفرت بدقة على جلده المتجعد ، علمت منه إنه حارس البيت أو ما تبقى منه حاليا ، يعمل هو وابنه في المحل التجاري الذي يواجهه وقد لمحهاوهي تلج للبيت وتتجول فيه . 

سألته بضعة أسئلة عن أصحاب البيت أو من تبقى منهم ، فأجابها الرجل أنه لم يتبقى غير الوريث الوحيد له وهو مهندس درويش كامل الذي كان يأتي  ليطمئن على أحوال البيت وأحوال سكانه بين الحين والآخر ولكنه انقطع منذ سنوات عن عادته ، وصار الذي يهتم بأحواله الآن هو ابنه الوحيد . 

إذا عمها ما زال على قيد الحياة  !!. 
قفزت مثل طفلة صغيرة من فرحتها بهذا الخبر ، أخيرا قد توصلت لشخص من رائحة أبيها الحقيقي ودمه ، كادت تحتضن الرجل العجوز وهو يبلغها بعنوان عمها  ، شكرت له مساعدته ومضت متعجلة بعدما خطت العنوان بالكامل على الورق . 

توقفت سيارة الأجرة أمام العنوان بالضبط ، عمارة قديمة هادئة في منطقة كليوباترا ، ترجلت منها متحمسة تسابق دقات قلبها خطوات قدميها وهي تقفز على درجات السلم . 

حاولت السيطرة على انفعالاتها عندما لمحت عيناها لافتة ذهبية صغيرة على إحدى الشقق منقوش عليها . 

                    م / درويش كامل
                     شركة الحراريات 

" مازال في قلبي حياة  بعد ، مازال يخفق ... يتحمس ...
يتوتر". 
ترددت في ضغط زر الجرس ثم ما لبثت أن استجمعت قواها وفعلتها . 
فتحت لها سيدة ستينية جميلة ، يحمل وجهها من الرزانة والهدوء ما بعث داخل نهلة الارتياح فطلبت على خجل مقابلة درويش كامل لأمر عاجل . 
انتظرت في الصالون بضعة دقائق حتى سمعت صوت خطوات ثلاثية متباطئة ، فتح الباب وظهر رجل من خلفه يتكأ في مشيته على عصا خشبية غليظة ، يبدو أن إحدى رجليه قد تضررت ضرر بالغ . 
وجه أبيض مريح ، مشرئب بحمرة خفيفة ونمش يغطيه ، نفس الزوج من الأعين السوداء تماما كأبيها مع اختلاف تغييرات الزمن فيهما .
 
ابتسم الرجل لها لتأملها الصريح له ، خفضت بصرها وتنحنحت قائلة في صوت متوتر وكلمات متلعثمة  :

" أسمي نهلة ، نهلة زاهد المنصوري ، بنت سعاد الجرار، أظن أنها أسم مميز بالنسبة لك ، أمي أتجوزت أخوك قبل زاهد،  أخوك منير كامل  ....... ". 

توقفت لتلتقط أنفاسها اللاهثة في الوقت الذي رأت فيهملامح الرجل وقد تغيرت من الود إلى العدائية والغضبوصرخ فيها قائلا :  

" هي عيلة الجرار عايزة منا ايه تاني ، مش كفاية اللي حصل ، أنتوا عايزين مننا إيه بالظبط ، اتفضلي برة لو سمحتي ومش عايز أشوف وش حد فيكم تاني في بيتي ، أنتوا فاهمين ". 

" طيب ممكن تسمعني لو سمحت ، وبعدها أبقى قرر اللي تحبه ، أرجوك يا عمي ."  

نظر لها في احتقار لكلمتها الأخيرة وكأنه ينفي وجود أي صلة تربطه بها حتى لو كانت مجرد كلمة للتوقير والود ، لم يعلم أنها خلال الدقائق القادمة ستغدو حقيقة . 

" عمك ايه ، عمى الدبب ، أنتوا مجرمين ومكانكم الحقيقي هو السجن مش الفلل ، اتفضلي برة لو سمحتي يا أما ها تضطريني أطلب لك الشرطة ". 

" أرجوك أسمعني مرة واحدة بس وأوعدك مش ها أزعجك تاني أبدا ". 

قالتها في رجاء حقيقي فجلس في كرسيه على مضض مديرا وجهه بعيدا عن مقعدها ، فتنحنحت في توتر :  
" زاهد المنصوري مش أبويا الحقيقي يا م / درويش ، أنا أبويا الملازم منير كامل اللي دخل عش الجرار بإسم المدرس محمد فهمي بيومي  ". 

أخرجت من جيبها عقد زواج أمها بأبيها وناولته لعمها الذي وضعه على المقعد بجانبه ولم يفتحه . 

أربكتها فعلته فأكملت حديثها في توتر :
" بس للأسف العقد ده وقع في إيدي بعد موت أمي ، وهي عمرها ما فتحت أو لمحت للموضوع ده في حياتها ، وأخدت بنفسي العقد وروحت لسعد الجرار وهو اللي حكي لي على جوازهم  .... ". 

بدأت انفعالاتها تطفو على وجهها من جديد  :
" حكى لي عن حادثة أبويا وعن جدي الله يرحمهم ، وهو اللي قالي أن أمي كانت حامل في الشهر الثاني لما مات أبويا وأن ..... وأن أنا أبقى بنت محمد بيومي بس مقالش على الحقيقة كاملة ، أنا عرفت الحقيقة من زاهد واللي عرفته لحد اللحظة دي مش قادرة أصدقه ". 

كان وجه الرجل يحمل من الذهول والدماء ما أربك نهلة فتوقفت عن الكلام تطمئن على حالته الصحية ، قاطعهما في ذلك الحين صوت طرقات على الباب ، دلف الطارق للداخل تعلو وجهه ابتسامة ودودة مرحة . 
ما أن وقع بصره على نهلة ورأته هي الأخرى حتى توقفقلبها عن النبض مجددا .... لم يحتمل المفاجأة فخبت نوره وتجمدت عروقه . 
فأمامها واقفا ...  
أمام عينيها المذهولتين .... 
مصطفي درويش .... حبها الأول ومعيدها السابق في كلية التجارة .... 
مصطفى درويش الذي أتى لمنامها منذ يومين عندما حلمت بوقوفها أمام جامعتها واستغربت لرؤيته ومساعدته لها في الحلم ، هو من أدمى قلبها يوما ما يقف الآن أمامها بشحمه وبلحمه . 
الآن فهمت سبب زيارته لها في منامها ، فعقلها الباطن يسبقها بمراحل ،  حدسها مرة أخرى لم يجلب سوى المشاكل . 

" قائمتك لن تتركك أبدا يا نهلة أما تنهيها أو تنهيك ". 
تردد صدى الجملة في عقلها مرارا وتكرارا ومع توترها الزائد فقدت وعيها من جديد .

                           *******                        
استمعت نهلة لكلام عمها الذي بدأ الحديث عندما تأكد من استفاقتها واطمئن عليها . 

" عارفة يا بنتي ايه اللي مخليني أصدق كلامك وأتيقنمن أنه حقيقة ، حاجة واحدة بس ؟ ، أن حادثتي الليحصلت لي وإصابتي وتقاعدي المبكر كان بسببك أنتي ."
تغيرت تعابير وجه نهلة للتساؤل فأكمل كلامه في هدوء  :
" مصطفى درويش الأسيوطي معيدك في الجامعة اللي هو أبني وفي نفس الوقت ابن عمك ..... ". 

اتسعت عينا مصطفى في ذهول وهو يحدق في وجه أبيه بينما اختفت الحياة من وجه نهلة تماما الذي ذهبت منه الدماء وتحول للون الأبيض . 
" كان بيحبك فعلا حب صادق يا بنتي وكلنا كنا معاه وموافقين على قراره لحد ما ." .... 
بدا أن الرجل يقاوم غضبا داخليا ويحاول منعه من الظهور لحديثه : 
" خالك سعد الجرار بعد ما عرف من زاهد أن فيه حد متقدم لخطبتك ، عمل تحرياته وقدر يوصل لكل معلومات العريس المحظوظ ده واللي هو  أبني الوحيد . " 
ألتقط أنفاسه قليلا ثم عاود الحديث :  
" جالي البيت وهددني بكل وقاحة ووضوح أن أبني ميكونش له أي علاقة بيكي من قريب أو من بعيد ، وأن أبني نفسه ميعرفش بكلامنا ده عشان مصلحته ، ومقالش طبعا السبب ايه بس كان وقتها التفسير الوحيد هوالماضي الدموي اللي ما بين العيلتين ." 
" بس دلوقتي فهمت كل حاجة ، خالك كان عارف أن أخويا له بنت من صلبه والبنت دي على قيد الحياة  ". 
" وقتها بقى أخدتني الحمية ورفضت تهديده وتمسكت بقرار أبني واختياره وطردت خالك من بيتي،  وللأسف دي كانت النتيجة ."  
وأشار في حزن مختلط بهيبة إلي رجله اليسرى المتضررة :
" حادثة ، قرصة ودان من خالك عشان يربيني ويفهمني أن اللي حصل ليا ولأختي ولأخويا ممكن يحصل لابني كمان ، ومحدش يعرف هنا في البيت أي حاجة غير إني رفضت بعد الحادثة دي وبشدة جواز ابني منك ووصل بيا الحال إني أحط جوازه منك في كفة ورضايا عنه في الكفة التانية ، وبلغته أسباب زايفة لرفضي ارتباطكم أنه بسبب المستوى الاجتماعي وظروف انفصال والدك ووالدتك  ". 

تنهد درويش في حزن وألم ثم أكمل :
" أنا أختي وأخويا ضاعوا مني مقدرتش أضحى بإبني كمان ". 
ارتسمت الحيرة على وجه مصطفى وهو ينقل بصره مابين أبيه وبين نهلة التي لم يتقبل عقله بعد صلة القرابة بينهما .... 
نهلة حبه الوحيد. .... هي ابنة عمه إيضا !! 
أطرق عمها بنظراته للأرض قائلا في تأثر : 
" سامحيني يا بنتي ". 
لم تجد ما تقوله فأغرق الصمت المكان ، قطعه عمها بصوت متهدج وأنفاس متقطعة :  
" بس فيه حاجة واحدة أشك أن حد قالك عليها ... حتى زاهد نفسه ". 
نظر في عيني نهلة ببطء ثم أكمل :  
" أبوكي ممتش ، أبوكي لسه عايش ". 
  !!!

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Nov 07 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

غداً لن تمطر - الجزء الثانيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن