ومن الماضي ما قتل !

68 2 4
                                    

فتح زاهد الباب ليتفاجأ بنهلة ماثلة أمامه ، رحب بها وانزاح جانبًا لتدلف للداخل ، حينما لم يستطع كبت فضوله فتحدث في عدم لياقة :  
" خير يا نهلة ، ايه سبب تشريفك ليا بالزيارة دي ؟ ."
" جاية أتكلم معاك في موضوع ، تقدر تقول أني ملقتش حد غيرك أتكلم معاه ، كمان أنا واثقة أنك ها تكون أكتر حد صريح معايا ." 
لم تلق منه ردا إلا الصمت فأطلقت زفرة قصيرة ، ثم أكملت :
" ها اسألك سؤال الأول لو تسمح ، ممكن اعرف أنت ليه بتكرهني ؟" سألته  في حزن . 
ردد زاهد في دهشة : 
" بكرهك ! أنا عمري يا بنتي ما كرهتك لا أنتي ولا اخواتك ، هو أنا أه مش أبوكي الحقيقي بس ربيتك زي بناتي اللي من صلبي ، ما تستغربيش ، خالك سعد كلمني وقالي أنك عرفتي موضوع جواز أمك و أبوكي الحقيقي ."
نظرت له نهلة في استغراب وعدم تصديق متمتمة : 
" رمتنا احنا وأمي واستبدلتنا ببيت تاني وأولاد تانيين وبيعتني لسعيد وعايرتني بطلاقي وساومت على حياة أمي وكنت عايز ترجعني لسعيد في عز جبروته وتقولي مش بكرهك يا بنتي ؟!". 
ابتلعت مرارتها في حلقها الجاف حينما لم تسعفها الكلمات .
" خلصتي كلامك" . 
قالها زاهد في برود ، ثم ما لبث أن قام وجذب كرسيا ووضعه أمامها : 
" انتي فاكرة إني انفصلت عن أمك عشان ما جبتليش الولد فعلا ، تبقي عبيطة ، انا معرفتش أكمل مع أمك ومكنتش عارف اعيش اساسا معاها ، عارفة ليه ؟ عشان كل ما أبص لها أفتكر قهري وفقري وذلي ، أفتكر جبروت خالك سعد وأخواته ، أنتي فاكرة إني كنت بحب أمك أو أرضى أتجوز واحدة حامل من واحد بتحبه وكانت مراته ، لولا بس الفقر ، أنتي متعرفيش خالك عمل فيا إيه عشان أرضى أتجوزها ، متعرفيش خالك قادر يعمل ايه لو حد عصاه ، أتخيلي كل القذارة اللي في دماغك ها توصلك في الأخر لسعد الجرار". 
ألتقط أنفاسه ثم أكمل : 
" ساوموني على حياة أمي ومرضها ، وقبلت القرشين عشان ألحق أعملها عمليتها واتجوزت أمك بالغصب بس  أمي اللي مصبرتش وماتت ، ماتت عشان مكنش معايا اللي يتقل جيبي ويسند ضهري ، وحلفت من يومها لأكون عبد للفلوس وخدام للقرش ، ورضيت أعيش مع أمك وأتحمل ذل خالك كل يوم ، أطاطي رأسي كل ما يرمي لي قرشين وأبوس الأيادي ، انا عارف ان أمك غلبانة ومش زيهم بس هي عمرها ما حبتني ولا شافتني أستحقها ، أمك قلبها فضل مع أبوكي ".
تبدلت ملامحه وانتصب ظهره وكأنه يتحول لشخص أخر أكثر ضراوة ثم أكمل : 
" انفصالي عن أمك من كرهي ليهم ، رميت لهم أختهم مبقتش تلزمني وأخدت قرشين من خالك قصاد أني مطلقش عشان الواجهة الاجتماعية ، ها تقولي بيعتك لسعيد ، اه بيعتك بالحلال وعلى سنة الله ورسوله ، أنا أدرى بمصلحتك والمفروض تشكريني دلوقتي على الخير اللي أنتي فيه ، بقيتي سيدة مجتمع ، جوزك راجل أعمال تحلم به أي ست ، عنده مصانع وشركات بإشارة منك سعيد يخليها تحت رجليك ، بيعتك لأنك أكتر اخواتك حظ وجمال ، ياريت كانت واحدة فيهم زيك أو حتى ربع بختك ، ساومت على حياة أمك عشان عرفت أنها ها تموت وكلنا ها نموت يبقى ليه مستغلش الفرصة ، قبل ما تلومي عليا لومي على الزمن والأيام اللي خلتني كده ، أنا كنت راجل يا بنتي مقبلش مليم غير من عرقي .. كنت ، ومنهم لله اللي مسخوني كده ، انت فاكرة خالك واخواته  دول رجالة وعليهم القيمة ؟ ، القرش بس اللي عمل لهم تمن في سوق الرجالة ، القرش بس اللي بيتحكم في الناس ، أمي ماتت عشان مكنش معايا وأمك داقت من نفس الكأس ، لو عايزة تعيشي دور الضحية روحي عيشيه مع الزمن وخليه يدوس عليكي زي ما داس علىغيرك ، انا كنت زيك أهبل وبريالة وفاكر اني بني أدم بس اتعلمت تحت رجل خالك وفي بيته اللي متعلمتوش من الحياة كلها ، أنت متعرفيش حاجة عنهم ، متعرفيش أي حاجة ".
هدأ قليلا حينما قاطعته نهلة بهدوء : 
" لو بتحبني فعلا زي ما بتقول .... ساعدني ." 
" خير يا بنت سعاد ، أرمي اللي في جوفك ." 
" محتاجة مساعدتك تجاوبني على كام سؤال وبكل صراحة وصدقني اللي عاوزه هتاخده ". 
" مش عايز منك حاجة يا بنت سعاد ، ربنا يخليه سعيد باشا مش منقص بيتي حاجة ، كفى ووفى من يوم رجوعك له ، انتي عارفة أنه مدخل ولادي مدارس خاصة ومتكفل بمصاريفهم  ، بصي يا نهلة ... سعيد هو نفسه الجرار بس الفرق بين الأتنين أن سعيد لسه عنده قلب يحب ويتحب أما خالك الله يلعنه ميعرفش غير أنه يتعبد زي فرعون ". 
" انا محتاجة أعرف كل حاجة بصراحة ووضوح ، مين اللي رشح لك وظيفتي في المول يوم ما قولت لي عليها ، مين سبب دخولي حياة سعيد ؟ ." 
لوهلة لمحت نهلة على وجهه التردد ثم عاد لإتزانه مجددا :
" داخلة أنتي عليا على الحامي يا بنت سعاد ،  اللي فاكره أنه كان واحد ابن ح ..... لال شاف اعلان وظايف وقالي عليه ." 
ابتسمت نهلة ابتسامة ساخرة مما دعاه للغضب فهي تعرف جيدا أن الكذب ليس من صفاته . 
" مش مصدقاني يا بنت سعاد ، عايزاني أحلف لك على المصحف عشان أدخل النار ؟! ." 
" ما تقلقش ، أنا معنديش أي نية وحشة لسعيد ، معركتي دلوقتي مش معاه ، أنا معركتي مع سعد الجرار وجاية النهاردة اتأكد من اللي في دماغي ، فما تخافش على سعيد بيه ... هيفضل بيتك مفتوح على حسه ". 
اهتزت نظرات زاهد قليلا ثم قال مبتسما : 
" ذكية يا بنت سعاد طول عمرك ... ويمكن دي مشكلتك ، قوليلي ... ناوية على ايه بقى ، ها تنتقمي من خالك يعني ؟ ". 
عادت نهلة بظهرها للوراء وقالت في هدوء :
" الانتقام ده كان من زمان ، راح وقته وطعمه خلاص ، المنتقم أعمى ولما بيفوق بيكتشف أنه خسر كل حاجة .... أنا مش ها أنتقم أنا ها أكشف ورقه وأصفي حسابات وبس  ."
قهقه زاهد عاليا وقال في سخرية : 
" أنتي يا بت سعاد ها تهزي عرش الجرار ، متأكدة !". 
تبدلت ملامحه للجدية ثم أكمل :  
" صدقيني لعبتك مع سعد الجرار مش ها تنولي منها غير الأذية أو الموت ومش ليكي وبس ده لأي حد قابلك حتى بالصدفة في الشارع ، أنا أتمنى ربنا يديني طولة العمر وأشوفه مذلول قبل ما أموت ... حتى لو مذلول لأي حد مش ليا ، بس تفتكري أنه اللي مقدرش عليه مخلوق ها تقدري عليه أنتي يا بنت سعاد ".
 
ابتسمت نهلة في ثقة وهو تخرج من جيب سترتها هاتفها المحمول ، لمست شاشته في سرعة ثم توقفت عند صورة ما وضغطت على تكبيرها ثم أدارت الهاتف إليه ليراها . 
" ايه رأيك في دي ؟ ." 
اتسعت عينا زاهد وسرت في جسده قشعريرة مخيفة وهو يتفحص الصورة رغم معرفته لها من أول وهلة . 
" ها ، لسه مستقل بيا ؟" 
عاد بظهره للوراء وقال في تردد متلعثما  :
" وجيالي أنا ليه وأنا مالي ". 
نظرت إلى داخل عينيه في تفحص:  
" قالوا لي أنك عندك السر كله ." 
" أنتي بتقولي ايه ؟ مين دول اللي قالولك ؟ ."
بدا صوته مرتجفا والانفعال يغزو وجهه في وضوح فانتهزت ضعفه النفسي وسألته :   
" ها ، ها تساعدني ولا ؟، كده كده ها أوصل للي أنت مخبيه ، اللي قدر يوصلني للصورة دي يقدر يوصلني لسرها ."  
" طيب رسيني على الحوار ،  هو الجرار قالك ايه بالظبط ؟ أن أبوكي كان مدرس وأنه طمعان في أموال جدك وأمك ؟ ". 
أجابته بهزة من برأسها مما حدا بفمه للاعوجاج متبرما ثم قال في خفوت مصاحب بخوف :  
" أمسكي أعصابك لأنك ها تسمعي رواية تانية للي حصل ، يمكن تفهمي منها قوة وجبروت خالك واصلة لفين وتبطلي الهبل اللي بتجري وراه ده ، والظاهر كده أنه فيه طرف تاني هو كمان مخبول وبيحاول يساعدك ". 
نهض من مكانه وأغلق عليهما باب الصالون وبحركة لا إرادية تلفت حوله ثم زفر في قوة قائلا : 
" اللي ها أقولهولك ده لو ما تحكمتيش في ردة فعلك بعده هاتحكمي على رقبتنا كلنا بالابتسامة الأخيرة يا بنت سعاد ". 
وأنطلق زاهد يروي لها ما لم تتخيله قط في أسوأ كوابيسها  .
                         *******

غداً لن تمطر - الجزء الثانيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن