البداية

23 0 0
                                    

  

   

في هذه اللحظة كان العالم أمامه مجرد امتداد لا نهائي من الأزرق

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

في هذه اللحظة كان العالم أمامه مجرد امتداد لا نهائي من الأزرق. محيط لا يعرف له نهاية، يحتضن طوفه الخشبي الهش كما يحتضن الفراغُ نقطةً صغيرةً في فضاء واسع. لم يكن هناك فرق بين السماء والبحر، كلاهما يذوب في الآخر، يُحيط به سكون عميق وكأن الزمن نفسه قد توقف عن الحركة. وحدها الشمس، تلك النقطة المضيئة البعيدة، كانت تراقبه من أعلى، شاهدةً على ضياعه، ورفيقه الوحيد في ذلك الأفق اللامتناهي.

  
   كان الفتى ملقى على ظهره، جسده المنهك يستسلم لسطوة الجوع والتعب. عيناه مغمضتان تحت وهج الشمس الحارقة، ويده اليمنى ترتجف وهي تغطي عينيه بحثًا عن واحة من الظل وسط الصحراء الزرقاء التي تحيط به. كان الحبل المربوط بإحكام حول خصره يتصل بسارية الطوف، وكأنه الخيط الوحيد الذي يربطه بهذه الحياة المتذبذبة بين النجاة والضياع.

ثيابه الرثة تكاد لا تغطي جسده النحيل، وقد تآكلت بفعل الملح والريح. خنجره المتدلّي عند خاصرته يلمع بضعف، شاهداً صامتاً على أيامٍ كان فيها أقوى وأقدر. أما الآن، فقد أصبح الظل الذي يلقيه الخنجر على جسده الضامر إشارة إلى جسد نخره الجوع. بين أصابعه المتعبة، نصف رغيف يابس بالكاد يحتمل قسوته، يتشبث به كما يتشبث البؤساء بالوهم. عطشه يكاد يفتك به، وقد فرغت قربة الماء التي كانت آخر ما يربطه بأمل الحياة، بينما الشمس تسقط أشعتها الحارقة على جلده بلا رحمة، كل هذه الامور كانت كفيلة للقضاء على رجل في عز قوته وشبابه فما بالك بفتى لم يتجاوز الخامس عشرة من عمره بعد ، صحيح ان كل هذه الظروف لم تقضي عليه، لكنها كانت كفيلة بأن ترسم على وجهه حكاية من الصبر واليأس في آن واحد.

   سأكون كذبًا ان قلت أنه لم يفكر يومًا في إنهاء معاناته بإلقاء نفسه في البحر. نعم، راودته تلك الفكرة مرات عديدة، لكنه في كل مرة كان يتوقف، يتراجع، وكأن شيئًا خفيًا يشده إلى الحياة، شيئًا أعمق بكثير من مجرد الحبل الذي يربط خصره بسارية الطوف. إنه ذلك الدافع الغامض الذي جعله يربط الحبل حول خصره منذ البداية، ذلك الشيء الذي يلمع في عينيه الباهتتين، المثقلتين باليأس والتعب من قلة النوم والماء والغذاء، ومن ملح البحر الذي يحرقهما مع كل موجة. رغم كل هذا، كان هناك بريق غامض ينبعث من عينيه. بريقٌ لا يحتاج المرء إلى خبرة لفهمه؛ إنه بريق الإصرار، قوة لم تعرفها حتى أعظم الفرسان.

إبن لشبونه الهارب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن