الخيالُ هو ذلك السِّرُ المُضمَر في جوهر النفس، ونافذةٌ خفيَّة تُفضي إلى عوالمَ لا تَحدُّها أفلاكُ السماء ولا تُحيطُ بها دائرةُ الوجود. هو رُوحُ الإنسان إذا انعتقت من قيود الواقع، وخُطوةٌ نحو عتباتِ المستحيل حيث تسكنُ الأحلامُ التي تُلامِس أطرافَ الحقيقةِ ولا تطالها.
أما نحن، فهل نحن إلا كائناتٌ متوهَّمة خُلِقت في خيالٍ أزلي؟! هل لنا من حقيقةٍ سوى ما نصنعه بأيدينا ونراه بعقولٍ قد خضعتْ لأوهام الظاهر؟ أم أنَّ الحقيقة ذاتها محضُ سرابٍ في صحراء العقل، تغرينا لنلحق بها، ثم تذوبُ حين نلامسها كأنها لم تكن؟
الخيالُ بحرٌ تُلقى فيه مراسي العقول، تتقاذفنا أمواجهُ بين السكينة والعصف، حتى يبتلعنا في عُمقه. يُقال إنَّ الواقعَ عدوُّ الخيال، ولكني أراه ظلاً له، صورةً ناقصةً مما يمكنُ أن يكون. أليس كلُّ ما نراه حقيقةً كان يوماً خيالاً طافَ في ذهنِ أحدهم؟ أليس الخيالُ هو المَهْدُ الذي يولدُ منه كلُّ ما يُكتب، كلُّ ما يُبنى، وكلُّ ما يُحيا؟
إنَّ له في النفسِ فصّاً يَسِمُه البعضُ بالجنون، وآخرون يَعُدُّونه مَلَكةَ الإلهام، لكنه في الحقيقةِ بُعدٌ لا يُدركه إلا من غاصَ في أعماق الروح. حينما أطلقتُ نداءً إلى ذلك الفصِّ الخيالي في رأسي، أجابني بنداءٍ أزلي، كأنه يقول: "اصنع عالماً لك، ولكن احذرْ، فإنَّ من دخله لن يعرف الخروج إلا بشقاء."
أتُراكَ تُدركُ أنَّ كلَّ حقيقةٍ أغربُ من الخيال، وأنَّ الخيالَ نفسه ليس سوى انعكاسٍ لحقيقةٍ أسمى، أعمق، نجهلُها؟ إنَّ قمعَ الخيال ليس مُمكناً، فهو سليلُ الفِطرة، جموحُ الروح، ونداءُ الأبدية.
ألا ترى أنَّ الدنيا بذاتها ليست إلا خيالاً؟ وأن الله وحده هو الضمانُ في هذه الرحلة التي تتأرجحُ بين الحُلمِ واليقظة، بين الظنِّ واليقين؟ كمْ أحسبُ أنَّ العقول وإن ضاقَت، فإنَّ خيالَها لا حدَّ له، يسبقُ أجنحةَ الطير ويعلو فوق القمم.
فليكن هذا العالم الذي نصنعه خيالاً عظيماً لا تضيقُ به عقولُ قارئينا، ولتكن بوابته مفتوحةً لكلِّ من أراد الهربَ من ضيق الواقع إلى سِعة اللامعقول. لكن احذر، فإنَّ الخروج منه ليس بلا ثمن، بل هو رحلةٌ تستنزف الروح، فلا يعودُ المرءُ كما كان، بل يُخلَقُ من جديد... متخيلاً، مؤمناً بأنَّ الخيالَ هو الحياةُ، وما سواه ظلالٌ عابرة.
اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.