غرابة

6 1 0
                                    

(١)
غرابة


في ليلة من ليالي شهر أبريل وفي جبل شامخ على يمينه طريق تعبر منه سيارة يسوقها رجل وزوجته تجلس في المقعد المصاحب وابنتيهما في المقعد الخلفي تتوسد إحداهما حِجر الأخرى غاطة في نوم عميق، بدأت الأخت في صفع خد الأخرى برفق ومناداة اسمها (فيورا) لتستفيق، فتحت (فيورا) عينيها ورفعت رأستها ببطء ثم سألت: 《هل وصلنا؟》

أجابت أختها (بيلا) مازحة: 《ليس بعد، لكن قدمي تنملت من ثقل رأسك.》

رتد (فيورا) بتذمر:《 ألم يكن باستطاعتك التحمل فحسب؟ لقد كانت غفوة مريحة.》

ضربت (بيلا) كتف (فيورا) مازحة: 《لست مجبرة على تحمل الألم من أجل راحتك، أنا لست أمك.》

قاطعت (الأم) جدالهما بصوت ناعم:《 كفى، أنتما تزعجان والدكما.》

عم الصمت السيارة من جديد بعد كلام (الأم) ومالت (فيورا) على باب السيارة لتسرح بعيناها وتتمعن النجوم الساطعة في السماء والهلال المشع لتبدأ في التبسم للمنظر البديع، بعد دقائق تتوقف السيارة ويدير (الأب) رأسه مخاطبا ابنتيه في المقعد الخلفي قائلا:《 لقد وصلنا.》

نزلتا من السيارة وفي انبهار لتتلألأ أعين (بيلا) و(فيورا) عندما رأتا الأضواء المعلقة والمحلات متنوعة العروض والأجواء المفعمة بالحيوية من شباب تتجول وأطفال تلعب وشيوخ يجلسون ويتكلمون بوجوه يخلوا منها الهم وعائلات يتنزهون، لا يزال الانبهار بادرا على وجه كليهما لكن سرعان ما تلاشى ذلك عندما قال (الأب) لهم من نافذة السيارة: 《أنا وأمكم سنسبقكم إلى منزل عمتكم، فلتتجولوا قليلا وبعدها عودوا.》

ردت (بيلا) والفرحة ظاهرة على وجهها: 《حسنا!》

عندما أدارت (بيلا) وجهها لأختها (فيورا) رأتها تنظر في استغراب لوالدها وعندما تحركت السيارة وذهبت سمعتها تقول بصوت خافت: 《لمَ يبدو هذا مريبا...؟》

(بيلا) في تساؤل: 《ما المريب؟》

وجهت (فيورا) عيناها إلى أختها وما زالت نظرة الريبة على وجهها ثم قالت: 《ألا تلاحظين أنه يدعي الطيبة؟》

(بيلا): 《ما الذي تعنينه؟ لطالما كان كذلك...》

بدى الأمر غريبا وعم صمت ثقيل بينهما وعندما لاحظت (فيورا) تصرفاتها الغريبة قررت تغيير مجرى الحديث على الفور وفي وجه عليه ابتسامة مزيفة حاوطت ذراه أختها بيدها قائلة: 《إنسي الأمر وهيا لنتجول قليلا، لدي بعض المال لم لا نشتري شيئا نأكله؟》

نظرت لها (بيلا) وضحكت: 《لقد أقلقتني! هيا بنا إذن.》

أخدت كلتاهما تتجولان بين الناس وتشتريان بعض الحلوى والمكسرات وتتنزهان لفترات طويلة لكن الوقت تأخر وحان وقت العودة إلى منزل العمة، وكونهما لم تزورا المنطقة مذ سنوات فقد أخد منهما وقتا حتى وجدتا المنزل، تقدمت (فيورا) ودقت الباب في أدب منتظرة من يستجيب، وبينما الأختان تنتظران فتح الباب أخدت (فيورا) تسرح بعينيها في الأرجات وهاهو أخيرا فتح، وجهت (فيورا) ناظريها لمن فتح الباب لتشهق وترجع بضع خطوات للوراء في حركة سريعة مذعورة، عيناها توسعتا عندما رأت زوج عمتها محروق الوجه والدم يقطر من أنامله، قدماها تجمدتا وكأن سلاسل من حديد قيدتهما فمنعتها عن الحراك، وعقد لسانها فصارت عاجزة عن قول أي كلمة للمنظر المروع الذي اعتلى ناظريها.

أدارت وجهها لأختها فوجدتها ملقاة على الأرض محروقة الجِّرم وتستمر بالأنين، صرخت (فيورا) وسقطت أرضا لتبدأ في الشهيق بقوة ويبدأ جسمها بالارتعاش غير قادرة على استيعاب ما الذي حدث فجأة، نبظات قلبها تتسارع وبصرها تشوش وبعد بضع رمشات اِسوَدَّ محيطها للحظات وعاد ثانية لكنه أخذها إلى غرفة بيضاء، تسمع شوشرة مَن يتكلمون خارج الغرفة لكن من الصعب فرز ما يتفوهون به، فجأة عادت ثانية إلى وعيها لترى أمها تمسك بكتفيها وتهزها لتستفيق من صدمتها، وبالفعل عادت إلى وعيها لترى أمها تتفقدها والقلق ظاهر على ملامحها، أخدت تدير عينيها في الأرجاء فترى أختها بجانبها سليمة تمسك بيدها وزوج عمتها يقف وراء أمها قلقا، أنفاسها بدأت تهدأ وتتباطء حتى عادت إلى وعيها وهدأت من روعها فترى الجميع يحيط بها قلقا عليها.

سأل (الأب) ابنته (بيلا) وفي صوته لمحة من الانزعاج: 《(بيلا) ما الذي حدث لأختك؟》

ردت (بيلا): 《لا أعلم لقد سقطت على الأرض عندما فتح (هينري) الباب.》

(الأم): كيف يمكن أن يحدث هذا فقط بالنظر إليه؟

نهضت (فيورا) من على الأرض ببطء ثم قالت بصوتها الهادئ: 《يبدو أني بحاجة إلى قسط من الراحة لا أكثر، تصبحون على خير...》

ثم دخلت المنزل تاركة الجميع خلفها مستغربا، ذهبت إلى الغرفة المظلمة في الطابق الثاني التي اعتادت النوم فيها مع أختها كلما أتو لزيارة عمتها وجلست على طرف السرير منزلة رأسها فغطى شعرها الأشقر القصير وجهها الشاحب، ثم أطلقت تنهيدة عميقة وأدارت وجهها نحو الشباك لتتأمل الهلال الذي غطت عليه الغيوم فنهضت وتوجهت نحو الشباك المقفول وفتحته لتسمح للنسيم بمداعبة مسامات وجهها فتغمض عينيها للحظة ثم تعيد النظر إلى الهلال وتناديه قائلة: 《ها أنت مجددا تضيء سمائي وترسم البسمة على وجهي، ليس وكأنك مجرد شيء بعيد يصعب الوصول إليه، يزور السماء كل ليلة ويهجرها نهارا...بل كأنك شخص أعرفه منذ نعومة أظافري.》

ظلت تحدق فيه لوهلة ثم شرعت في الانتحاب بهدوء حتى لا يسمعها أحد سوى من عند الباب واقفا يسترق السمع.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Oct 16 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

ليل نهارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن