كانت ليلة أخرى هادئة في المقهى، صوت أمواج البحر المتداخلة مع هدير السيارات الخافت يضفي جوًا من السكينة. جلس أحمد في نفس الركن المعتاد، يحتسي قهوته ببطء.
لم يكن وحده هذه المرة، بل كان يجلس بجانبه رجل في منتصف الأربعينات، طويل القامة ذو بشرة سمراء وملامح صارمة، عيناه تحملان ثقل سنوات طويلة من التجارب، وشعره الرمادي المختلط بخصلات سوداء يضفي عليه مظهرًا من الحكمة والهيبة. كان هذا رائد، أحد قدامى المقهى.
رائد كان شخصية معروفة في هذا المكان، بنى سمعته على احترامه للقواعد وتقديره. كان يرتدي جاكيت جلدي أسود، وملامحه الجادة كانت تخفي خلفها تاريخًا طويلًا من الخبرات والتجارب.
أحمد ألقى نظرة سريعة على يوسف، قبل أن يشعل سيجارة جديدة ويأخذ نفسًا عميقًا: "بص يا رائد،كلامك المرة اللي فات عن الثقة والطاعة. الموضوع فعلاً مش مجرد أوامر وعقاب.
رائد ابتسم ابتسامة خفيفة: "الطاعة مش حاجة بتيجي بالعافية، يا أحمد. دي بتتبني مع الوقت. لازم يكون في توازن بين القوة والحنية، بين السيطرة والحرية."
أحمد كان ينظر إلى رائد بتفكير عميق، ينفث دخان سيجارته ببطء: فيه ناس بتفكر إن السادية مجرد شوية أوامر وفرض سيطرة، لكن الموضوع أكبر بكتير.
رائد أخذ رشفة من قهوته، ثم وضع الفنجان على الطاولة بلطف: الموضوع مش في السيطرة بس. الطاعة في السادية لازم تكون مبنية على الثقة. من غير ثقة، مفيش حاجة هتمشي صح. كل حاجة بتبدأ من هنا
أحمد اتكئ على الكرسي، وحط السيجارة في الطفاية: انا معاك إن الثقة هي المفتاح؟ بس العقاب بيكون وسيلة مهمه في ايدك تقدر تغير بيها المسار وتعيد تربية وتقويم
رائد: "بس لو العلاقة كلها قائمة على العقاب من غير توعيه وفهم، هتفضل سطحية ومش هتستمر.
إنما لو فيها تواصل وثقة، الطاعة هتجي طبيعية. المملوكة لازم تحس إنها في أمان، وإنك مش بس بتتحكم فيها، لكن كمان بتفهمها وبتفهم طبيعتهاأحمد، وهو ينفث دخان سيجارته، قال: "طيب وإمتى بتعرف إنك وصلت لمرحلة الطاعة دي؟
رائد: "لما تبدأ تلاقي إن المملوكة بتعمل الحاجة من غير ما تستنى منك تعليمات في كل حاجة. بتحس إن فيه تفاهم وتقدير متبادل. الطاعة الحقيقية مش دايمًا بتحتاج كلام، أحيانًا بتبقى في التصرفات البسيطة، إنها تكون عارفة إيه اللي بترتاح فيه من غير ما تقول
أحمد جلس متفكرًا للحظة، ثم قال: "طيب والعقاب؟ في ناس بتشوف إن العقاب متعة، إيه رأيك؟
رائد: العقاب مش الهدف منه إنه يثبت السيطرة، لازم يكون للتعليم. لو العقاب لو بقي متعة مبقاش عقاب هيفقد معناه
أحمد نظر إلى رائد وقال: "بالظبط يعني العقاب لوحده مش كفاية
رائد: "العقاب جزء من المعادلة، بس الطاعة الحقيقية بتيجي من الاحترام والتفاهم. وكل ما العلاقة اتبنت على الاحترام ده، كل ما كانت أقوى وأعمق
......
الجو هادئ والحديث بينهما عميق. كانا يتبادلان الأفكار حول العلاقات والطاعة، حتى دخل كريم إلى المقهى. كريم بدا عليه التعب بعد يوم طويل، لكنه كان مهذبًا كعادته. لمحه أحمد، وابتسم له ابتسامة ترحيب.
كريم تقدم نحو الطاولة وسلّم على أحمد بحرارة، ثم نظر إلى رائد.
رائد باشا، واحد من الأصدقاء القدامى ليا." قال أحمد معرفًا كريم على رائد. "رائد، ده كريم، ضيفنا جديد في الاسكندرية
رائد ابتسم لكريم بترحاب وقال: أهلاً وسهلاً يا كريم
رد كريم بلباقة وهو يجلس على الكرسي المقابل لهم. تشرفنا، يا استاذ رائد.
أحمد نظر لكريم وقال: إيه الأخبار؟ عامل إيه في الشغل؟ الأمور ماشية تمام؟
كريم أخذ نفسًا عميقًا وقال: "الحمد لله، كله تمام. لسه بخلص تفاصيل التفاصيل في الشغل. الموضوع مش سهل، بس بأحاول اخلصه بسرعة
أحمد أومأ برأسه، مبتسمًا: "أهو ده الكلام. بس خد بالك، أهم حاجة إنك تتأكد إن مفيش أي ورقة ناقصة. الحاجات دي لو سبتها ممكن تتعطل
كريم قال بثقة: متقلقش، كنت بتابع مع المندوبين في كل خطوة. الأمور ماشية كويس، وفيه تنسيق تمام بيني وبينهم.
رائد، اللي كان مستمع بهدوء، قال: "التنسيق ده هو اللي بيضمن إن الشغل يمشي بسرعة. كويس إنك بتتابع كل حاجة بنفسك.
كريم ابتسم وقال: "آه، الحقيقة اتعلمت من الشغل القديم إني متسيبش حاجة للظروف. لازم كل تفصيلة تكون تحت السيطرة، خصوصًا إن الوقت اللي معايا هنا محدود.
أحمد اتكئ على الكرسي وقال: "ده الصح. أهم حاجة في الشغل دي إنك تكون منظم،
رائد: خصوصًا لما تكون في مدينة جديدة زي إسكندرية. أول مرة ليك هنا، مش كده؟
كريم أومأ برأسه: "أيوة، دي أول مرة أجي إسكندرية، وفعلاً مختلفة عن القاهرة. كل حاجة هنا بتحسها هادية، رغم إن الشغل فيه ضغط.
أحمد ضحك وقال: "إسكندرية ليها طابعها الخاص. بس متنساش، بعد ما تخلص شغلك، خدلك يومين كده تستمتع بالجو.
رائد ضحك وقال: "آه، بالضبط. ما تخليش الشغل يضيع عليك فرصة الاستمتاع بالبحر.
كريم ضحك هو الآخر وقال: "هاحاول. بعد ما أخلص، لو فاضلي وقت هاشوف إيه الأماكن اللي أقدر أروحها.
الحوار استمر بين الثلاثة في جو من الراحة والتفاهم، وركز أحمد على الاطمئنان على كريم وإنجازات المهمة التي جاء من أجلها، متجنبًا أي مواضيع أخرى تخص عالم السادية، تاركًا المجال لكريم ليشعر بالراحة في وجودهم.
--------------------------------------------------------------
كيف يؤثر العقاب في بناء الثقة بين الماستر والخاضعة؟
أنت تقرأ
مقهى الساديين
Mystery / Thrillerملتقى الساديين .. هنا يجتمع عشاق السيطرة هنا تتطرح الكلمة والفكرة هنا تمتلئ رائحة القهوة ممتزج برائحة الألم هنا يجتمع الجديد والقديم هنا تكمن المتعة هذه ليست لعبة ولا شهوة هذه حياة أهلا بكم في مقهى الساديين بقلم/ أحمد هاشم