|عبيد الشغل|

63 15 8
                                    

دخلت مكتبها كالعادة، خطوة ثقيلة وراء خطوة.
شعرت بثقل الحياة يضغط على قلبها، وكان الهم يرافقها أينما ذهبت.
نظرت إلى الساعة على الحائط، الساعة تشير إلى السابعة مساءً، ورغم ذلك كانت الأوراق تتراكم على مكتبها، وذهنها مشوش بمليون فكرة في نفس الوقت.

كان شبح العمل يطاردها في كل لحظة، في كل نفس، حتى أن جسدها أصبح مجرد آلة تسير بلا روح.

كان ذلك اليوم، ككل يوم، يبدأ بتمرين روتيني: كوب من القهوة، ثم الشاشة المزدحمة بالبريد الإلكتروني والمهام المتراكمة.

تنهدت بعمق، وكأنها تحاول أن تفرغ كل ما في داخلها من شحنات سلبية.
"كفاية"، قالت لنفسها بصوت منخفض.
"كفاية"، تكررها كتعويذة.
كانت تلك اللحظة التي قررت فيها أن تغير مسار حياتها.
قررت أن تضع حداً لهذا العبء الذي أصبح يثقل كاهلها.
منذ عدة شهور، كانت ترى نفسها تمضي في دوامة لا تنتهي، ضائعة بين العمل والأوقات التي تفر منها أسرتها وأصدقائها
هي لا تعيش، هي فقط تعمل.

وقفت فجأة، وأخذت نفساً عميقاً.
وضعت ملف استقالتها في حقيبتها، وقررت أن تذهب إلى مكتب مديرها.
وهو الرجل الذي، رغم جدّيته، كان يرمز لها شيئاً ما في هذا المكان الذي أصبح سجناً مغلقاً على نفسها.
دخلت مكتبه، وعينيها تعكسان التوتر الذي يخنق صدرها.

_ عايزة أقدم استقالتي.
كان صوتها منخفضًا، لكنه كان مليئًا بعاصفة داخلها.
كانت تعتقد أن هذه هي اللحظة التي ستحقق فيها الراحة أخيرًا.
لكن ، بنظرته الهادئة، أوقفها.

_ استقالة؟
قال بنبرة غير مستوعبة، واضعًا يديه على الطاولة وكأن الكلمات تتردد في فمه.
إيه السبب؟ ، أنتِ من أفضل الناس هنا.

أغمضت عينيها لثوانٍ، ثم نظرت إليه، وعينيها مليئة بالحزن.
_ مش قادرة أكمل. كل يوم أعيش عشان أشتغل، حتى إنني مش عارفة أعيش. مش لاقية وقت لأسرتي، صحابي ، وكل لحظة بشوف نفسي بتضيع أكتر. مش لاقية نفسي هنا.

نظر إليها بتركيز، وكأن الكلمات تتناثر حوله ولكنه كان يحاول أن يلتقط المعنى.
_ إحنا في ظروف صعبة، ، هحاول أخفف عليك الشغل. مفيش أكسترا تايم. الموضوع هيكون أسهل ليكي، هتلاقي مساحة لنفسك.

كانت تشعر ببعض الراحة، لكنه كان شعوراً مؤقتاً.
كانت تحاول أن تصدق كلامه، لكن عقليها كان يعرف جيدًا أنه مجرد كلمات تهدف إلى تهدئتها.
لكن لم يكن لديها الخيار.
لا تستطيع أن تقاوم بعد كل هذه الساعات الضائعة في العمل، والأيام التي أصبحت غير ذات معنى. وافقت بتردد، وأجابت:
_تمام، هحاول.

لكن الحقيقة كانت غير ذلك.
كانت لحظات الراحة التي وعدها بها تتبخر سريعًا، وتزداد عليها المهام. كانت تعود إلى منزلها متأخرة كل يوم، وعندما تلتفت حولها، كانت ترى نفسها أكثر ابتعادًا عن كل شيء. تتحدث مع أسرتها، لكن كل حديثها كان عن العمل.
حتى أصدقاؤها توقفوا عن التواصل معها.

أصبحت أيامها مجرد سيل من الاجتماعات والملفات والضغط النفسي.
لا وقت للتنفس.
لا وقت للراحة.
لا وقت حتى لنفسها.
ابتسامتها التي كانت تحبها قد اختفت، وجسدها أصبح كالآلة التي تؤدي مهامها دون شعور.
لا تذهب للجميل في الخارج، ولا تلتقط أنفاسها، مجرد العمل.

في إحدى الليالي، وبينما كانت تعمل من جديد حتى الساعة الثانية عشر صباحًا، دخل المكتب.
كانت مستغرقة في ورقتها، عيونها تدمع من التعب.
عندما رآها، ألقى عليها نظرة سريعة ثم قال:
_ لازم تنزلي أكسترا تايم النهارده.

توقف الزمن للحظة.
رفعت عينيها إليه، كانت عيونها خالية تمامًا من التعبير، كأنها أصبحت فارغة من الداخل. ماذا قالت له؟ هل ترد عليه؟ هل ستسحب استقالتها مرة أخرى؟ لكن، قبل أن تستطيع الإجابة، انفجرت.
كانت الكلمات تسيل منها مثل نهر جارف.

وستدور تلك الدومة .
ضغط و .. فقط .

وحدها الحروف بقيت حيث تعيش القصص. اكتشف الآن