أوڤر دوز «over dose»

65 20 7
                                    

جلس على طرف الفراش في غرفته الصغيرة، أساسها لا يصلح للعيش ، عيناه مثبتتان على الحائط أمامه، بينما عقله غارق في أفكار لا نهاية لها.

_ أنت صحيت يا بيه ، راجع الفجر فعلا هتصحى امتى مثلا ؟
قوم يلا شوف هتلف وتصيع فين زي كل يوم .

كان صوت أمه يعلو كل مرة بالحديث نفسه، وكأنه نصّ مسجّل، يتكرر بلا نهاية.

نظر إلى الباب مغتاظًا، شعر بالعجز يتخلله، يتغلغل إلى أعمق أعماقه، كأنه رداء ثقيل لا يستطيع نزعه.
لكن هو استسلم لصعاب الحياة ، ورفض المواجهة و استسلم لأن يصبح «ضحية مجتمع»
يعرف أنَّ الواقع مختلف، وأنه يغرق كل يوم في دائرة من الضياع لا تنتهي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بخطى مثقلة، خرج من البيت، متوجهًا إلى المقهى المعتاد.
جلس هناك، يشعر ببعض الراحة بين الدخان المتصاعد والأصوات التي تغرقه بعيدًا عن لَوْمِ أهله المستمر.
كان أصدقاؤه يملؤون الطاولات من حوله، يضحكون ويمزحون، ويشعر في وسطهم بذاك الإحساس المؤقت بالطمأنينة، وكأن العالم كله خارج هذه الزاوية لا يهم.

" ها يا سطا هتيجي معانا النهاردة؟" قالها صديقه بابتسامة صغيرة تملؤها الدعوة دون كلمات كثيرة.

لم يسأله حتى إلى أين، فهو يعرف، يعرف الهروب المشترك الذي يجمعهم، المكان الوحيد الذي يمكنه أن يتجاوز فيه عجزه، أو على الأقل ينسى لوقت قصير.

هزّ رأسه بالموافقة، وخرج معهم إلى المكان الذي اتفقوا عليه.

يغوص في هذا الطريق، مدفوعًا برغبة في كتم الصوت الذي كان يطارده، صوت اللوم والعتاب، الصوت الذي يقف في رأسه كل ليلة ويذكره بأنه لم يحقق شيئًا.

كانت ليلة طويلة، جلس مع أصدقائه، تدخين وموسيقى صاخبة، وضحكات متقطعة لا يعرف معناها.

شعر أخيرًا بتلك اللحظة من الانسلاخ عن واقعه، تلك اللحظة القصيرة التي نسي فيها كل شيء، حتى اسمه ربما.

لكنه لم يدرك أن هذه الليلة ستكون مختلفة عن كل ما سبقها.

مع مرور الدقائق، بدأ يشعر بأن جسده يثقل. سحابةٌ من الدوار اجتاحت رأسه، والغرفة حوله بدأت تدور، الألوان تمتزج والأصوات تبتعد. حاول أن يستعيد توازنه، لكنه شعر كأن كل شيء يبتعد عنه، أصدقاؤه كانوا يضحكون في البداية، ثم لاحظوا شيئًا غريبًا.

لم يكن يتحرك، عينيه نصف مغمضتين، وجسده متراخٍ كليًا، وكأن الروح تخرج منه ببطء.

_ ولا ، أنت يالا مالك يالا ؟
قال أحد أصدقائه، وصوته مختلط بالخوف. لكن لم يستجب.
صرخ صديقه مرة أخرى، يدفعه في محاولة لإيقاظه، لكن لا حياة في الجسد، نبضه يكاد يكون غير محسوس، ونفسه أصبح خافتًا.

فجأة، بدأ الجميع يصرخون، هاتفًا يُطلب الإسعاف، وأيادٍ تتخبط حوله في حالة من الفزع.
لكن جسده كان صامتًا، كأن روحه قررت أن ترتحل بلا رجعة.
كانت تلك اللحظة الأخيرة ، مشهد هدوء مخيف غلف المكان، وأصدقاءه يراقبونه بعيون مليئة بالذهول، غير مصدقين أنه غادر.
...

بعد أن أغمض أحمد عينيه للمرة الأخيرة، شعر كأن روحه قد انسلخت من جسده.

لم يكن يعرف أين هو، أو كيف وصل إلى هنا، لكن شعورًا بالبرد تسلل إلى أعماقه، يتخلله خوفٌ لا يوصف.
كان يدرك أنه قد خرج من الدنيا، وأن رحلته إلى الحساب قد بدأت.

شعر بالخجل من نفسه، وكأن ذنوبه باتت حملاً ثقيلًا يثقل كاهله ويكتم أنفاسه.
تذكر لحظات الهروب من مسؤولياته، تلك اللحظات التي كان يختبئ فيها في زوايا القهوة، والساعات التي قضاها هاربًا من مشاكله، باحثًا عن ملاذ في الطرق المظلمة التي لم تقوده إلا إلى ضياعٍ أكبر.

رأى أمامه شريطًا من ذكرياته، عائلته التي كان يظن أنها عبء، نظرات أمه التي كانت تحمل له الحب والخوف رغم كلماتها القاسية.
أحس بحرقة في قلبه، وكأن ندمًا عميقًا يعصف به. كان يتمنى لو أنه يعود للحظة واحدة، يعتذر منهم، يحاول أن يكون أفضل.

بكى بحرقة، شعر كأنه عارٍ أمام خالقه، مكشوفٌ بكل أخطائه وخطاياه. لم يكن هناك مزيد من الهروب، ولم يكن هناك مكان ليختبئ فيه.
شعر بحجم أخطائه، بحجم الوقت الذي أضاعه، والألم الذي تركه في قلوب أحبائه.
كان يدرك أن الرحمة في يد الله وحده، وأنه لا يملك سوى الندم، داعيًا ربه بدموعٍ حارة، يطلب المغفرة، ويتمنى أن يُعطى فرصة أخرى، ولو للحظة واحدة.

و .. لكن الأوان كان قد فات، ولم يبقَ له سوى حسابٌ عسير.

_ انتهت .

وحدها الحروف بقيت حيث تعيش القصص. اكتشف الآن