الجزء الثالث

2 0 0
                                    

بَعْدَ أَنْ انْتَهَتِ الْأُمسيَةُ فِي الْمَقْهَى، خَرَجَتْ نُورُ وَلَيْلَى إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي كَانَ يَعُجُّ بِضَوْءِ الْقَمَرِ، حَيْثُ امْتَزَجَتْ أَنْوَارُ الْمَدِينَةِ الْخَافِتَةُ بِنَسَمَاتِ اللَّيْلِ الْبَارِدَةِ. بَدَتْ نُورُ غَارِقَةً فِي أَفْكَارِهَا، بَيْنَمَا كَانَتْ لَيْلَى تُثَرْثِرُ فِي مُحَاوَلَةٍ خَفِيفَةٍ لِتَغْيِيرِ مَزَاجِ صَدِيقَتِهَا.

وَفَجْأَةً، تَوَقَّفَتْ لَيْلَى بَغْتَةً وَهِيَ تَنْظُرُ قُدُمًا قَائِلَةً:
ــ "أَرَاكِ لَا تَسْتَمِعِينَ إِلَيَّ، نُور!"
رَفَعَتْ نُورُ نَظَرَهَا مُتَفَاجِئَةً، وَقَالَتْ بِصَوْتٍ مُتَقَطِّعٍ:
ــ "مَعَذِرَةً، لَيْلَى... كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي شَيْءٍ آخَر."

قَطَعَتْ لَيْلَى كَلَامَهَا بِلَمْحَةِ عَيْنٍ نَحْوَ الطَّرِيقِ الْمُقَابِلِ، حَيْثُ وَقَفَ آدَمُ بِمَظْهَرِهِ الْمُتَأَنِّقِ وَيَدَاهُ فِي جُيُوبِهِ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ لَيْلَى ثُمَّ هَمَسَتْ لِنُورِ:
ــ "انْظُرِي مَنْ هُنَا!"

نَظَرَتْ نُورُ بِتَلَاوُنٍ بَيْنَ الدَّهْشَةِ وَالْقَلَقِ، فَقَطَعَتْ لَيْلَى الْمَسَافَةَ نَحْوَ آدَمِ، تَتْرُكُ نُورَ فِي مَكَانِهَا. وَبِصَوْتٍ مَرِحٍ، قَالَتْ لَيْلَى:
ــ "سَأَتْرُكُكُمَا لِلْحَدِيثِ قَلِيلًا. أَلَا تُفَكِّرُ يَا آدَمُ أَنْ تُحْدِثَ شَيْئًا جَدِيدًا؟"

نَظَرَ آدَمُ إِلَى نُورِ، ثُمَّ قَالَ بِنَبْرَةٍ بَارِدَةٍ:
ــ "لَا أَعْلَمُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ مَا يُقَالُ بَيْنَنَا."

ظَلَّتْ نُورُ صَامِتَةً، تُحَاوِلُ جَمْعَ أَفْكَارِهَا، بَيْنَمَا خَطَتْ لَيْلَى إِلَى الْخَلْفِ، تَتْرُكُهُمَا وَحْدَهُمَا.
بعد لحظاتٍ من الصمتِ الثقيل الذي ملأ المكان، نظر آدَمُ إلى نُورِ بعينين مشوبتين بالندم، ولكنَّ قلبه كان مثقلاً بقراراتٍ صعبةٍ لم يجد لها مفرًّا.

قالَ آدَمُ بصوتٍ خافتٍ، محاولاً إخفاء غضبه:
ــ "أعتقدُ أنَّنا لا نصلحُ لبعضنا البعضِ، نُور. كان لدينا الكثيرُ من الفرصِ، ولكنَّ الأمورَ أصبحت أصعبَ من أن نكملها."

نَظَرَتْ نُورُ إِلَيْهِ بِحَسْرَةٍ، يَدُهَا تَتَمَسَّكُ بِحَافَتِ طَاوِلَةٍ قُدَامَهَا، فَجَاءَ صَوْتُهَا هَادِئًا، كَأَنَّهُ تَحْتَ سَيْطَرَةِ الأَلَمِ:
ــ "أنتَ جَادٌّ في كلامك، أليس كذلك؟"

هَزَّ آدَمُ رأسه بتأكيدٍ، وهو ينظر إلى الأرض، غير قادرٍ على مواجهة عينيها. كان قلبه يتألم، ولكنه كان يظنُّ أنَّ هذا هو الطريق الوحيد للخروج من مأزقه.

ــ "نعم، نُور. يجب أن نُواجهَ الحقائق. لا أستطيعُ الاستمرارَ في شيءٍ لم يعد ممكنًا إصلاحه. ربما كان يجب أن نفترق منذ وقتٍ طويل."

شَعَرَتْ نُورُ بِلَوْعَةِ مَا سَمِعَتْهُ، فَجَاءَتْ كَلِمَاتُهُ كَالصَّاعِقَةِ تَخْتَارِقُ قَلْبَهَا. رَفَعَتْ عَيْنَيْهَا إليه، وقالت بصوتٍ غير ثابتٍ:
ــ "إذا كان هذا ما تُريد، إذاً سأقبلُ به. ولكنني لن أسمحُ لك أن تجرحني أكثر. أظنُّ أننا استنفذنا كلَّ الفرص الممكنة."

اطيَافُ المَشاعِرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن