حب بنكهة الحرب .. !

321 14 3
                                    

ما أبشع أن يستعمر أحدهم ذاكرتك و يستوطن روحك رغما عنك ! ..
يأبى الخروج منها تحت أي ظرف ..
فتنشد النسيان كما تنشد الشعوب الحرية !

كنت صغيرة لم تتجاوز الرابعة عشرة سنة حين إستعمرتني .
أتيت تحت مسمى الحماية ، قدمت وعودا زائفة و جعلتني أمضي بإبتسامة و عن إقتناع على عهود أردت بها تدميري و نفيي من عالم الطفولة ..

كنتُ وطنا فقيرا معدم المشاعر لا يفهم ماهية الحب و العاطفة و كنتَ أنت بلدا مثالا للقوة و التقدم و الجبروت .
أعجبت بك و لم أدر ماذا أفعل لأكون مثلك !

لاحظتني و بدأت تنسج شباكك بدهاء للإيقاع بي و كان لك ما أردت ..
أجل ، لقد وقعت .. وقعت في حبك بكل ما أوتيت من براءة و سذاجة و غباء .
أدخلني حبك ، " سيدي " مدن الأحزان ، و أنا لم أدخل من قبل مدن الأحزان !

أعرف أنك حينها كنت ترى فيّ ، صغيرة غبية ساذجة تدعي الثقة و القوة .
درست شخصيتي و أحكمت خطتك ثم جمعت جيوش كلماتك و أسلحة وسامتك وقدمت لإحتلالي .
لم أقاوم .. لم أكن حتى مستعدة للمقاومة !

إستسلمت على الفور و قدمت لك حضنا دافئا كنت تلجأ إليه كلما عصفت بك أمواج الحياة و تعبت من مقاومة رياحها العاتية .
أتدري أيها القرصان أني إستقبلتك على شطآني و دعوتك للتوغل داخل الجزيرة العذراء التي تسكنني دون أن أطلب شيئا سوى ألا تتركني و ترحل بعيدا ؟!

لا أنكر أنك سكنتني لسنوات ، قطعت أشجار قلبي لتبني بخشبها سفنا جديدة و أكلت من ثمار روحي كل ما إشتهيت ثم و بعد أن تأكدت أن هذه الجزيرة باتت جرداء غير قابلة للإستيطان هجرتها .
و إنتقلت أنت إلى جزيرة أخرى غير بعيدة عني ..

ركبت خشب أشجاري و حملت مؤونة من ثماري و رحلت إليها .
كنت أراها مقابلة لي تماما ..
كانت هي سمراء و كنت أنا بيضاء ، كان الموج في عينيها أسودا مظلما و كان موجي أخضر مشعا ، كانت طويلة و كنت قصيرة ، كانت نحيفة و كنت ممتلئة ، ...
كانت و كنت ! كنا مختلفتين تماما و أظن أن الروح المغامرة التي تسكنك أيها الجندي أرادت شيئا جديدا مختلفا فكنت أراك تبتعد نحوها دون أن أجرأ على مناداتك لإرجاعك ، ما الذي مازال عندي يغريك لتعود ؟ لقد أخذت كل شيء بالفعل !

عندما رسوت على شطآنها ، رأيت في عينيك نفس النظرة التي رسمتها حينما زرتني فعرفت أن نفس السيناريو سيعاد من جديد ..
فرأفت لحالها عوض أن أغضب منها و أكرهها ..

كنت أراك تنسج خيوطك حولها ببراعة و دهاء ، لكنها كانت أذكى مني و لم تصدقك مثلما صدقتك ..
كانت هي أكبر و أقوى مني بأضعاف ، رسى على شواطئها زوار قبلك تعلمت منهم كيف تكون هي المتحكمة . إستقبلتك لكنها لم تهبك كل ما لديها على طبق من ذهب كما فعلت أنا . كانت داهية و ذات خبرة فعرفت كيف تحتويك و تجعلك وفيا لها ..

لم أستطع أن أراقب مولود قلبي الأول و هو يقيم عند زوجته متناسيا حب أمه الصافي فأشحت بوجهي عنك أسبك و أشتمك ، ألعنك و أدعو الله ألا تهنأ أبدا ..
أتدري بأن دعوات الأمهات دائما مجابة ؟! ...

نعم ، أنت رحلت لكن لم تركت بعضا من جيوش ذكرياتك تسكنني و كلاب همساتك تنهش لحمي ؟ هل لتثبت أنك كنت هنا يوما ما ؟ لم كبلتني بقيود الشوق قبل أن تغيب ؟ ألم يكفك ما فعلته بي في حضورك ؟

قلبي و روحي و جسدي عاشوا طويلا تحت وطأة إستبداد حبك و حان وقت الثورة . حان الوقت لترحل و كأنك لم تأت يوما .

" النسيان ، النسيان "

كان ذلك المطلب الوحيد لخلايا ذاكرتي و هي تعلن تمردها ..
إرتعبت حكومة قلبي من مطالبي العقلية و فرت لتختبأ تاركة السلطة في يد المنطق و حسب ..

كانت الأيام الأولى بعد رحيلك مرعبة ، ذاق فيها كل من يسكنني العذاب جراء الذكرى المتوحشة التي تركتها خلفك تتجول في كامل الوطن تمتطي دمي و تسافر في شراييني .. سرقَت مني البراءة و الطفولة و نهبَت الحب و السعادة فلم تترك خلفها سوى الألم و المزيد من الألم ..

و الآن في زمن الثورة ، أهنئ شعبي و أنعيك في نفس الوقت على مقتل بعض ذكرياتك بوحشية و تشف في داخلي و إنتحار البعض الآخر خوفا و رعبا ..

أجل ! أنا اليوم أبتسم من جديد .. أبتسم و أنهار عيناي مخضبة بألف دمعة و على جسدي جرح ألف طعنة .. لكن لا يهم ما دمت قد تخلصت منك أخيرا !

بعد كل حرب هناك خسائر و أنا تكبدت خسارة عظيمة فقد إستنزف كلٌّ من إستعمارك لي و ثورة عقلي الكثير الكثير من روحي .
لكن في النهاية ، و رغم كل شيء أستطيع أن أقول بأنني خرجت سالمة .
أجل يعمني الخراب و الدمار اليوم و منهكة حد الموت لكن يوما ما .. يوما ما ستزهر الورود داخلي مجددا و ستنبت الأشجار المثمرة و سأعود كما كنت حديقة غناء و وطنا حلوا يشتهي الكثيرون الإقامة فيه . أقول هذا بكل ثقة في النفس لأنني غيرت حكومتي و منحت السلطة لعقلي متأكدة من أنه سيكون حاكما عادلا ..

ملاحظة : ربما يوما ما و تحت مسمى الديمقراطية و التداول السلمي على السلطة سيعود الحكم لقلبي و يسكنني الحب مجددا ..

من هنا و هناکحيث تعيش القصص. اكتشف الآن