ذات الرداء الاسود

365 26 24
                                    

الاسكندرية, مصر

اسبوعان بعد سقوط بغداد.

من بين ظلام الليل القاتم, والقمر الغائب تاركاً السماء قلعة سوداء, والمشاعل التي تلمع في الارجاء تنير ظلمات المدينة المرتعبة لما حل في باقي المدن من سفك للدماء.

سارت ذات الرداء الاسود بين الطرقات الملتوية في ازقة المدينة القديمة, بحذر وخفة, دون ان يلحظها احد من السكان المرتعدين او الاعداء المتربصين.

وصلت احد المنازل, طرقت الباب ثلاثاً, فتح لها ودخلت. كشفت عن غطاء رأسها وازاحت اللثام, فبدت ملامحها جلية تحت اشعة نور الشمعة, فكانت بيضاء الطلة, خضراء العينين, بشعر اسود قد لفته حول نهاية رأسها.

تحمل خنجرين في يديها وقد احكمت قبضتها عليهما.تحدثت نحو العجوز الجالس على كرسيه يقرأ وخلفه تجلس زوجته التي تحيك شيئا ما "لماذا ارسلت في طلبي بعد كل هذه السنوات".

نظر اليها العجوز وقد اغلق الكتاب, ثم تحدث "لقد مضت سنوات العمر بسرعة, ولم تزدكِ الا جمالا وخبرة, تعلمين لمَ ارسلتُ اليكِ, انظري حوالك, المدينة تموت, انها نهاية الحضارة".

الفتاة وهي تجيب بعدم اكتراثها لما يحصل "ليس من شأني, لقد اخترت حياتي وهي العيش تحت الظلال بعيدا عن كل الصراعات".

وضع العجوز الكتاب على الطاولة, ثم تنهد قليلا واكمل "ليس لدي احد سواكِ, لطالما كنتِ ابنة لي, واعتدتِ على سماع تلك الجملة التي كانت تعيد الامل والشجاعة الى قلبك, انك تعادلين عشرة رجال, وموهبتك فريدة اذ وضع الرب كل هذا الاصرار والمهارة في قالب جسدك".

ركعت الفتاة امام الرجل العجوز وانتظرت اوامره, خاطبها قائلا انه لا يريد ان يأمرها, بل يريد ان يطلب منها ايصال وصية له وهذا الكتاب الى المكان المنشود.

ترك كرسيه واقفا وهو يناولها الكتاب قائلا "لقد اندثرت اخويتنا يوم اعلنت الانشقاق والتخلي عن كل شي, ووجدت الحب برفقة هذه الوفية التي تقف بجانبي".

امسكت زوجته يده الاخرى وقبلت كتفه, اكمل يقول "وانتم كنتم بمثابة ابنائي, بعضكم مات وهو يسير في طريق الحياة, وبعضكم اختفى ولم يترك اثرا, لكنك الوحيدة التي بقيت وفية لي, ارجوكِ خذي هذا الكتاب واحرصي على ايصاله الى المكان المنشود, لا استطيع الاعتماد على احد غيركِ, وحدك انتِ تمكلين البراعة في ايصاله".

نهضت الفتاة واعادت الخنجرين الى مكانهما حول خصرها, ثم اخذت الكتاب وخبئته في جسدها, لفت اللثام حول وجهها واستعدت للمغادرة.

"ايها المعلم القدير, هل تأمر بشي اخر".

"كلا يا ابنتي, اريدك فقط ان تكوني بخير, واتمنى بعد تنفيذ هذه المهمة, ان تحاولي ايجاد الخير القابع في زوايا قلبك, انني ارى نورا في عينيك يحاول الارتقاء, اتركي الظلال وحاولي ايجاد الحب وعيشي تحت اشراقة شمس الصباح برفقة من سيكون لك عالم من الحنان".

لاحت علامات الحزن في عينيها, ثم اكملت تقول "لقد تخلى الرب عني, وقد تركت قلبي في احد الجوامع مركونا على احد الرفوف, واصبحت جسدا خالي الوفاض, سأحاول ايها المعلم, لكني اعلم انه لن اجد احد يحب قاتلة, الوداع".

خرجت من الباب بعد ان وضعت الغطاء على رأسها وسلت خنجريها وتسلقت احد الجدران لتكمل طريقها على سطوح المنازل تارة وبين الازقة الضيقة تارة اخرى, حتى تصل حدود المدينة, لتركب في الميناء سفينة تأخذها الى اقرب مكان نحو وجهتها.

ومضاتٌ منْ عبق التاريخحيث تعيش القصص. اكتشف الآن