سهل عين جالوت, جنوب نابلس
الخامس والعشرون من رمضان, 658 هــ
التحم جيش المماليك الاسلامي بقيادة "سيف الدين قطز". بجحافل جيوش المغول القادمة من اراضي الشام وفلسطين, الذي كان بقيادة "كتبغا" ذلك القائد المسيحي من الاصول التركية ومن ابرز قادة هولاكو واكبرهم سناً.
كانت معركة الفصل في تاريخ الحضارات الاسلامية, والقول الختام في تحديد انتصار الخير ضد الشر, والاسلام ضد جيوش الاوثان.
امتزجت الفيالق تتناحر في الميدان, وكل يقاتل بأقصى ما لديه, فالمسلمون ايقنوا انها فرصتهم الاخيرة لصد الفيضان الذي لم تقف بوجه اي مدينة حصينة او جيش عتيد.
وما رفع معنويات المسلمين والرجال, هو نزول ملكم وقائدهم في ارض الميدان.
استمر القتال بعنف وضراوة, وصليل السيوف يقدح في ساحات الوغى, والدروع تتهشم ممتزجة بالاجساد والعظام المحطمة.
كان قطز يقاتل ببسالة رجل موقن بالنصر, لا يهمه ان المغول لم يخسروا معركة قط, بل اقسم على ايقافهم حتى لو كانت حياته ثمن لذلك.
فأنكسارهم امام المغول يعني سقوط مصر والدول التي تقبع خلفها, واندثار اخر معالم الحضارة واخر املاً للسلام والنصر.
صرخ بالرجال يحرضهم على القتال ضد هؤلاء المتوحشين البرابرة الذين كانوا يقاتلون بشراسة وحنكة.
وبينما هو ينازلهم حاصره مجموعة من اضخم رجال المغول, احصاهم فكانوا ستة, تجمعوا سوياً لاجل التنكيل بيه, وقد علموا من قتاله وزيه انه قائداً على رأس هذا الجيش.
انقضوا عليه كالضباع وهم يحاولون قتله مهما كلف الامر, وتغيير موازين القتال.
واجهم وحده بكل بسالة واباء, نازلهم بكل شجاعة وايقان بالنصر, وسعيا لاجل الشهادة.
تمكن من قتل احدهم, وجُرِح في كتفه, ثم تفادى عدة ضربات مميتة وقتل واحداً اخر قاطعا عنقه, وحاصره الاربعة الباقون وحاولوا الغدر به.
قاتلهم حتى وهن جسدهُ, وملئ بالجراح, كانوا بالغي الضخامة واشداء بالضربات.
سقط قطز ارضاً, على ظهره وهو يحاول صد ضرباتهم بسيفه, تقدم واحد منهم نحوه ووقف على جسده, واوشك ان يجهز عليه.
وبينما كانت الضباع الاربعة تحاول قتل الاسد الصامد بوجههم, انقض فارسٌ يضع لثاماً يغطي وجهه وسطهم وهو يحمل سيفين قصيرين, ومزق بطن الذي كان يحاول قتل قطز, ثم نهض وراح يقاتلهم بكل ضراوة.
تمالك قطز جسده وشد على جراحه وحمل سيفه, محاولا بيأس مؤازرة الفارس, لكن المقاتل المجهول كان مندفعاً بينهم لا يكترث الا لقتلهم, وما ان قتل اثنان منهم حتى تمكن الاخير من طعنه بسيفه في بطنه, فأكمل الفارس ضربته وغرس سيفه في قلب المغولي الاخير, ونظر الى جرحه العميق وترنح جسده للسقوط.
ركض قطز نحو الفارس المترنح وامسكه بين احضانه, ترك سيفه ارضا وكشف اللثام عن وجه ذلك الفارس الذي فدا القائد بحياته.
فكانت الصدمة المؤلمة, ان الفارس المغوار, هي زوجته الشجاعة, تلك التي حرصت على القدوم معه الى الحرب, لاجل مرافقته حتى النصر او الشهادة.
تفجرت الدموع من مقلتي قطز, وحملها بين ذراعيه وهو يأنبها على تقديم حياتها ثمن لاجل انقاذه, نظر في عينيها والدموع تفيض منهما وهي تتصفح ملامحه بيديها الناعمتين, وشفتاها تبتسم له وهي تخبره انها قد سبقته بنيل الشهادة.
نهض وهو يحملها بين ذراعيه وسار بين الجيش وهو ينادي قائلا, ان زوجة القائد قد سبقتكم بالشهادة, فهلموا الى النصر والشهادة. والجميع يشاهدون بأعينهم زوجته تحتضر والدماء تسيل من جرحها وثيابها وتقطر نحو الارض.
كان مشهداً مؤلما وعميق الاثر في قلوب الجنود, وتحولت المشاعر الوجدانية والرهبة من العدو الى قوة تعزز الايمان بالله واليقين بالنصر.
فصرخ الجنود وهم ينطقون الشهادة, ويقسمون بالتضحية اليوم, والاخذ بثأر القائد, فجاش الرجال بكل فصائلهم وكل اعمارهم وانقضوا على جيوش المغول كرجل واحد, وهم يرددون الشهادتين.
تقدموا كمد ابيض يكتسح الارض نحو فلول المغول التي بدأت بالتراجع, قاتلوهم بكل بسالة وطلباً للشهادة, فكانوا رجالا اختاروا احدى الحسنيين, اما النصر واما الشهادة.
فما كان من الرب الا ان رزقهم النصر, واعطى لمن ارادوا يقينا لقاء رب الجنان, شهادة تشرف مثواهم الاخير في تلك الارض التي اصبحت الجدار الصامد لوقف زحف براثن الاعداء وتغيير مجريات الحرب.
فكتب النصر لجيش المسلمين وانكسر المغول بكل قواتهم واعدادهم, وبدأوا بالتراجع منكسي روؤسهم يهربون كما لم يهربوا من قبل.
_______
وفي وسط كل تلك المعتركات, والقتال في اوجه بين الجيشان, بحث الطائر الرمادي, الذي كان مختبئا يرتدي زي جنود المماليك, وهو يقاتل تحت لواء قطز, بنظراته الحادة, عن قائد الجيوش المغولية.
فوجده واقف خلف الخطوط الدفاعية وهو يشرف على المعركة.
نزع زيه العسكري ورمى سيفه, ثم رفع قبعته التي تقبع خلف ظهره وارتداها, ومد نصله القاتل من يديه, ذلك الذي يستخدموه الحشاشون لقتل اعدائهم بكل هدوء بغرسة واحدة مميتة.
واقسم على الاخذ بالثأر لمعلمه المقتول ولكل رفاقه الذين قتلهم ذلك القائد في معاركه باراضي بلاد فارس, وانطلق نحوه يركض بين الجموع المتناحرة وهو يحدق نحو هدفه كصقر يوشك على الانقضاض على فريسته.
أنت تقرأ
ومضاتٌ منْ عبق التاريخ
Cerita Pendekقصة قصيرة تروي لحظة تاريخية مهمة في حياتنا ايام زمنٍ كنا فيه عظماء, وايام حضارة وصل صداها شرق الارض ومغربا القصة تتحدث عن مشهد في يوم سقوط بغداد عاصمة الدولة العباسية.