مهندس ولكن...

1.8K 79 2
                                    

أبدى رجال الأمن ذهولهم لسماع اتهامها، في حين سأل أحدهم خالد: الكلام دة حصل يا خالد بيه؟
ظهرت ابتسامة الاستخفاف تلوح على شفتي خالد وهو ينفي التهمة ببساطة: أكيد لا طبعا، الآنسة بتتبلى عليا، دي هي اللي من غير سبب جاية تتخانق معايا وعاوزة كمان تمد ايدها عليا وكل اللي واقفين شاهدين على كدة.
ردد الجميع بصوت واحد فهم بالطبع لم يعرفوا سبب المشاجرة: حصل.
فاتجه رجل الأمن بسؤال سهر التي بدأت تشعر بأن زمام الامر ينفلت من بين يديها: وانتي عندك دليل او شهود يا آنسة عل اتهامك؟
اندفعت سهر تقول متمسكة بآخر خيط قد يحفظ لها دماء الوجه: أيوة نسرين صاحبتي؟
سأل الرجل بنفاذ صبر: وهي فين؟
تلفتت سهر حولها وهي تقول بحيرة: معرفش، هي كانت واقفة معايا هنا، بس معرفش راحت فين؟
قال رجل الأمن أخيرا ناصحا لها بصوت هامس: شوفي يا آنسة احنا ممكن نوصل الأمر للعميد، بس هتكون شكوتك أدام شكوته، وانتي شايفة أد ايه موقفك ضعيف دة حتى الشاهدة الوحيدة اللي معتمدة عليها في شكوتك مش لاقياها، فمن الأحسن اننا نلم الموضوع ودي بدل الشوشرة.
ولأول مرة تشعر فيها سهر بالانكسار وقلة الحيلة، حيث قد تجمعت العبرات في عينيها فلم يكن هذا ضمن السيناريوهات العديدة التي تخيلتها لأول يوم لها بكلية الهندسة، بينما اعتبر رجل الأمن سكوتها دليلا على موافقتها، لذا قام هو ورجاله بفض هذا التجمع، ليرحل الجميع بينما وللحظة فقط أطلت من عينيها نظرة نحو خالد الذي لا يعلم لِمَ لم يفرح بذلك الانتصار الذي حققه عليها؟ ونظرتها تلك قد اخترقت حجاب قلبه حتى كاد يتنازل عن موقفه ويعتذر لها ولكنها سبقته ورحلت بخطوات لم تفتقر إلى الإباء، في حين ركب هو سيارته ليندفع بها إلى خارج الجامعة وكل منهما نسى صديقه في خضم تلك المشاعر المختلطة بداخلهما.
...........
كان يقلب في الاوراق الموجودة على سطح المكتب دون هدف حتى وقعت يده على تلك الدعوة التي لا يعلم ماهيتها، فأخذ يقلبها يمينا ويسارا بحيرة وفضول حتى سمع صوت طرقا على الباب فقال بصوته الجاد: ادخل.
دخل جاسر وهو يبادر بالاعتذار: آسف والله، بس كان غصب عني والله، أصلي كنت بوصل ريم هانم مشوار كدة ع السريع.
فقال له أدهم بانزعاج: مانا سبق وقولتلك قبل كدة خدلها عربية صغيرة على أدها وريح نفسك وريحنا.
جاسر محتجا ولكن بطريقة مرحة: لا يا عم الله الغني، دة انا كدة مستريح أوي، لكن لو عملت بنصيحتك ساعتها هتلاقيني كل يوم في القسم بطلعها من مصيبة شكل، أصلك ما تعرفش ريم.
أدهم باقتضاب: ربنا يخليكم لبعض.
ثم مد له يده بتلك الدعوة وهو يقول: شوف الدعوة دي تبع إيه كدة؟
مد جاسر يده ليتناول تلك الورقة وهو يقول: هات يا سيدي.
ثم شرع في قراءة محتواها لتنفرج أساريره بينما يراقب أدهم تعبيرات وجهه المنشرحة بنفاذ صبر وقد كاد يقتله الفضول ولم يستطع ان يمنع نفسه من السؤال باهتمام ولهفة: هه! حد من معارفنا هيتجوز؟
فنفى جاسر الأمر وهو يقول مصححا بابتسامة واسعة: جواز إيه؟ الموضوع أهم من كدة بكتير، انت تم اختيارك كواحد من افضل ٣رجال أعمال في مصر ودي دعوة لحضور حفل التكريم هيكون بعد شهر، هي المؤسسة بتبعت الدعوات قبلها بفترة كافية عشان تدي فرصة كويسة للمشاركين بانهم يجهزوا نفسهم عشان طبعا يظهروا في احسن صورة وكمان عشان تضمن حضور اكبر عدد من المدعوين.
لم يبد على وجه أدهم اي تأثر من كلامه بل اكتفى بهز رأسه وهو يقول بلامبالاة حقيقية: طب تمام.
فينتقد جاسر ردة فعله تلك بحنق: هو إيه دة اللي تمام؟ هو انت ما خدتش بالك وأنا بقولك انهم بيدوا الفرصة الكبيرة دي عشان الناس تلحق تجهز نفسها كويس.
هز ادهم كتفيه ليتساءل بتهكم: يعني عاوزني اعمل إيه مثلا؟ تحب اروح لدكتور تجميل يخليني شبه حسين فهمي ولا رشدي اباظة؟
بدا الضيق جليا على تعابير وجه جاسر وهو يلوي شفتيه بامتعاض ويقول: لا طبعا محدش قال كدة، بس ع الأقل تبقى مهتم شوية عن كدة، يا أدهم التكريم دة معناه كبير أوي وهيعلي اسمك اكتر في السوق، دة غير طبعا انك هتقابل اكبر رجال الأعمال هناك ويمكن تعمل أحلى بيزنس من الحفلة دي، عشان كدة لازم ترتب هتتعامل هناك ازاي؟ ونجمع معلومات عن الحفلة دي واللي هيحضرها مين؟ دة غير اننا لازم نجهز الخطبة اللي هتقولها في الحفلة ودي شيء اساسي من برنامج الحفلة طبعا ان كل واحد من التلاتة اللي بيتم تكريمهم المفروض انه هيقول خطبة او كلمة يعرف بيها نفسه وطبيعة عمله وهو بدأ ازاي ووصل للمرتبة والمكانة اللي بقى فيها ازاي؟ دة غير طبعا كلمة شكر للمؤسسة والقائمين عليها.
قال ادهم ببساطة: سهلة.
اعترض جاسر على الفور: لا، مش سهلة زي مانت فاكر يا ادهم، ماتنساش الناس دلوقت شايفينك ازاي؟ وهي دي الصورة اللي لازم نوصلها هناك فلازم الكلام اللي هتقوله في الخطبة دي يبقى مدروس كويس.
وكان رده أيضا بسيطا واثقا: سهلة بردو، اكتبلي كلمتين حلوين، وانا احفظهم وأروح اقولهم هناك وخلصنا.
ليبدي جاسر اعتراضه مجددا على هذا الاقتراح: بردو ما ينفعش الحل دة يا ادهم، لانك هتبقى معرض لانك تغلط او تنسى فلازم الكلام يبقى مكتوب في ورق أدامك وانت تقراه.
تلقى ابتسامة متهكمة كانت متوقعة ليتساءل أدهم وقد مرت سحابة حزن على عينيه: ودة هيحصل ازاي بقا إن شاء الله وانت عارف اني ما بعرفش أقرا ولا أكتب؟!
ليرد عليه جاسر بجدية وتصميم: يبقى لازم تتعلم يا أدهم.
.............
خرجت برفقة والدتها وصديقتها المقربة من عيادة ذلك الطبيب الشهير وهي تحمل هموم الدنيا على أكتافها الصغيرة، فبدا ان القدر لم يكتف بتلك الأعباء التي أصبحت مسئوليتها خاصة بعد وفاة والدها ليترك لهن ذلك المعاش الزهيد الذي لا يكفي للمعيشة فتضطر هي للعمل كبائعة في احدى المحال التجارية إلى جانب دراستها الجامعية، ثم يقف ضدها القدر مرة أخرى وضد أحلامها وطموحاتها فبعد أربع سنوات من الحصول على تقدير الامتياز في كلية الآداب يأتي آخر ليتم تعيينه بدلا منها معيدا بالكلية فقط لأنه من أقارب عميد الكلية، ولكنها رضيت بنصيبها وبعملها كمدرسة بالمرحلة الابتدائية باحدى المدارس الخاصة لتحصل منها على مرتب يساعدها في المعيشة وتعليم أختها الصغيرة، ولكن بدا أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، وإن كانت هي عنيدة وتتخلى بالصبر، فإن القدر أكثر عنادا ولن يتوقف عن وضع العراقيل أمامها، فتلك معضلة أخرى تواجهها حيث اكتشفت أن والدتها تعاني من ورم بالمخ يجب استئصاله سريعا ويتطلب الأمر إجراء عملية جراحية تحتاج لأموال كثيرة لا تملك منها شيئا سوى الفتات، ربتت ريم على كتفها مواسية: نوارن، ما تزعليش كدة، كل مشكلة وليها حل، وإن شاء الله طنط تخف وتبقى أحسن من الأول كمان.
جذبت أمينة ابنتها لصدرها فهي بالفعل تشعر بالشفقة نحوها، فابنتها لاتزال صغيرة جدا على تلك الهموم التي لا يتحملها من هم أكبر سنا، لتقول لها بابتسامة راضية: ما تشيليش نفسك فوق طاقتك يا حبيبتي، أنا عارفة ان العين بصيرة والايد قصيرة، ثم انا خلاص خدت حظي ونصيبي من الدنيا، البركة فيكم انتي واختك بقى، سمعاني يا نوران، سهر أهم دلوقت، هي اللي لازم تشغلي نفسك بيها لكن أنا سواء عملت العملية ولا لا هعيش أد إيه يعني؟
نهرتها نوران بصوت باك وأعين دامعة: أوعي تقولي تاني كدة يا ماما، انتي هتعملي العملية وهتخفي، وانتي اللي هتخلي بالك مني ومن سهر ان شاء الله وهتشوفيها وهي مهندسة وهتشوفيني وانا دكتورة في الجامعة زي ما كنتي طول عمرك بتتمني.
لم تعلق الأم على كلامها، فهي تعلم استحالة حدوث ذلك، فمن أين ستحصل على هذا المبلغ الكبير لإجراء تلك العملية؟ ولكنها لم ترد أن تطفئ شعلة الأمل التي تتمسك بها ابنتها، لتكتفي فقط بأن تقول: إن شاء الله يا حبيبتي.
في حين تنظر لهما ريم بشفقة، فإن المشهد مؤثر حقا، وهي تعلم ان صديقتها قد عانت كثيرا في حياتها ولكن ماذا يمكنها ان تفعل حيال هذا الأمر؟ فنوران لن تقبل بأية مساعدات مادية فلقد اختبرت ذلك منها من قبل، إذن فكيف السبيل لمساعدتها دون أن تشعر بالحرج ودون أن يمس الأمر نفسها الأبية؟
.........


هتف ادهم بغير استحسان لاقتراح صديقه: إيه اللي انت بتقوله دة يا جاسر؟ تعليم إيه اللي في السن دة؟ أنا هبقى عامل زي ما بيقولوا (بعد ما شاب ودوه الكتاب)؟
كان متأكدا من أن اقتراحه لن يلقى سوى الرفض من قبل صديقه، ولكنه محاميا فهو رئيس قسم الشئون القانونية بمجموعة الخالد، لذا فعمله قائما على إقناع الذي أمامه بوجهة نظره بالدلائل والبراهين، وبناء على هذا، قال بهدوء: وليه لا؟ ما سيدنا محمد واللي هو كان أصلا أمي هو بردو اللي قال (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)، طلب العلم ملوش سن معين يا أدهم، ثم أنا يعني ما قولتلكش خد الدكتوراه، أنت كل اللي مطلوب منك انك تتعلم القراءة والكتابة بس، وانت انسان ذكي ولماح والموضوع مش هياخد منك مدة طويلة وأنا واثق انك قبل الشهر ما يخلص وقبل ما ميعاد الحفلة ييجي، هتكون بتعرف تقرا وتكتب ولا أساتذة الجامعة.
إن الأمر بالطبع يحتاج منه وقفة مع نفسه ليفكر فيه بروية ولكن هذا لم يمنع أنه كان على حافة الاقتناع بينما غروره أبى أن يمر الموقف دون ابداء ملاحظته الساخرة: ويا ترى بقا هتقدملي في مدرسة داخلي ولا هدخل فصول محو الأمية؟
لوى جاسر شفتيه برفض لطريقته الساخرة، ولكنه رغم ذلك رد موضحا الأمر ببساطة: لا دي ولا دي يا سيدي، احنا هنشوفلك مدرس خاص نكلفه بالمهمة دي مقابل مكافئة كويسة هنحددهاله على حسب شغله والنتيجة اللي هنطلع بيها.
فأبدى أدهم اعتراضا اخيرا وهو يشير نحو جاسر بتحذير: بس...
قاطعة جاسر متفهما لمخاوف صديقه: اطمن يا سيدي، احنا طبعا هنتحرى السرية التامة ونأكد عليه الموضوع دة، يعني اسمك ومكانتك هيبقوا في أمان، وهتفضل زي مانت الباشمهندس أدهم الرفاعي.
ظهر الارتياح بعض الشيء على تقاسيم وجهه التي لاتزال مشدودة، فما زالت لديه بعض المخاوف حيال هذا الأمر خشية أن ينتشر هذا الخبر فيعلم الجميع خاصة منافسيه أن المهندس أدهم الرفاعي الذي يهابه الجميع ما هو إلى رجل أمي لم يحصل على الشهادة الابتدائية حتى بل أنه في الحقيقة لا يعرف القراءة والكتابة فتهتز صورته أمام الجميع كما حدث في فترة سابقة من حياته يريد محوها نهائيا من ذاكرته ولكنها تأبى ذلك.
............

حب بالحروف الأبجديةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن