عرض غامض

1.4K 60 2
                                    

في صباح اليوم التالي، وبعد نوم متقطع في الساعات المتأخرة من الليل حيث ظلت تفكر كثيرا في حديث شقيقتها لها ناهيك عن تلك الكوابيس الكثيرة التي راودتها والتي كان بطلها الرئيسي هو ذلك الفتى الشرير ذو الابتسامة الساخرة المستفزة، استيقظت على صوت رنين هاتفها المتواصل، فالتقطته لتجيب بصوت ناعس: ألو.
جاءها الرد من الطرف الآخر على هيئة صياح صديقتها المقربة: انتي لسة نايمة يا هانم لحد دلوقت؟ ليه؟ حضرتك مش ناوية تروحي الكلية النهاردة ان شاء الله ولا ايه؟
كانت قد استعادت وعيها بالكامل لتطل من عينيها نظرة غاضبة وهي ترد على صديقتها محاولة بقدر الإمكان أن تتمالك أعصابها: تصدقي بالله؟ كويس انك بتتكلمي في التليفون، لانك لو كنتي أدامي دلوقت أنا معرفش كان ممكن أتصرف معاكي ازاي؟ بقا يا ندلة يا واطية شايفاني بتخانق تقومي تسيبيني وتمشي كانك فص ملح وداب؟
قالت نسرين مبررة موقفها: يا بنتي ما هو كان لازم حد فينا يكون برة المشكلة عشان لما سيادتك تتوحلي أقدر أنا أتصرف وأدور على طريقة أخرجك بيها.
علقت سهر باستنكار وسخرية: لا حوشي حوشي ياختي، وانتي فعلا سيد من يتصرف في المواقف الصعبة، تصدقي يا بت أقنعتيني!
نسرين بابتسامة سمجة: طبعا يا بنتي، دي اقل حاجة عندي، المهم هعدي عليكي ولا هتعدي عليا؟ أنا عرفت اجيب جدول المحاضرات والمفروض ان عندنا محاضرة النهاردة الساعة عشرة.
سهر بخمول: لا، أنا مش هروح النهاردة، هاخد يومين كدة أحاول أنسى فيهم اللي حصل، روحي انتي ولو أخدنا محاضرات حاولي تسجليها ويبقا أخدها منك.
كانت تعلم كم ان صديقتها عنيدة ولا يمكن ثنيها عن قرارها بسهولة لذا قالت موافقة: أوك، مفيش مشكلة، هبقى أعدي عليكي بقا لما أرجع، ياللا سلام.
قالت سهر منهية المكالمة الهاتفية: مع السلامة.
سألت نوران التي قد دخلت للتو وهي تجفف وجهها باحدى المناشف: دي نانا؟
أومأت سهر برأسها بصمت، لتسألها نوران مجددا بغير رضا: بردو مش هتروحي الكلية النهاردة؟
سهر بإصرار: محتاجة وقت اتخطى فيه اللي حصل.
لم تجادلها نوران التي ذهبت إلى خزانة الثياب لتنتقي منها ما سترتديه وهي تقول: تمام، طب أنا هروح المدرسة النهاردة وبعد ما أخلص هعدي على ريم هي اتصلت بيا امبارح وقالتلي انها عاوزة تشوفني النهاردة ضروري، المهم خلي بالك من ماما كويس واوعي تنسي مواعيد علاجها، مفهوم؟
قالت كلمتها الأخيرة وهي تلتفت إلى شقيقتها بتحذير ولكنها وجدت أن تلك الأخرى قد غابت في سبات عميق على ما يبدو لتهز رأسها يمينا ويسارا في يأس.
..........
مشهد مكرر، حيث وقف خالد مستندا على هيكل سيارته المعدني برفقة صديقه مدحت الذي تذمر مرة أخرى ونفخ بضيق: وبعدين معاك بقى يا خالد؟ هنفضل واقفين كدة لحد امتى؟ طب امبارح وكان أول يوم، النهاردة بقى ايه اللي جابرنا ع الوقفة دي؟
أشاح خالد بوجهه في ضيق وهو يقول لصديقه: بقولك ايه يا مدحت؟ ما تصدعنيش، عاوز تمشي اتفضل أنا مش ماسك فيك.
بدا وجهه غير قابل للمزيد من الجدال مما جعل مدحت يلوي شفتيه بانزعاج وهو يقول: ماشي يا عم، طب أنا هسيبك شوية، عندي ميعاد مع حد كدة، هخلص وأجيلك.
لاحت ابتسامة ساخرة على جانب شفتيه وهو يعلق: مع مزة جديدة ولا إيه؟
مدحت بغموض: يعني، حاجة زي كدة، بس يبقى رنلي قبل ماتمشي، ما تعملش زي امبارح وتسيبني أنا أدور على تاكسي يوصلني.
لم يجيبه خالد بل عاد لينشغل بالتطلع في وجوه الطالبات باحثا عن وجه معين يحمل من البراءة والشراسة بنفس المقدار، ورغم كل التحذيرات التي تلقاها من أدهم إلا انه لم يستطع أن يمنع نفسه من البحث عنها.
........
التقت نوران بجاسر في منزل ذلك الأخير كما اتفق مع شقيقته والذي طلب منها أن ينفرد بها قليلا للحديث في أمر هام، فذهبت شقيقته لإعداد القهوة لثلاثتهم بينما فضل جاسر أن يكون حديثهما في حجرة المكتب ربما ليكتسب الشكل العملي الذي أراده، وقبل أن يتفوه جاسر بكلمة بادرت نوران بسؤاله: خير يا أستاذ جاسر! كنت عاوزني في إيه؟
بالطبع فإن نظرته بها لم تخب، إنها فتاة جادة وعملية وتحب الطرق المباشرة والمختصرة، أطلت من عينيه نظرة إعجاب لم يبذل جهدا لإخفائها وهو يقول: كويس انك دخلتي في الموضوع على طول يا أستاذة، وزي ما انتي بتحبي الصراحة والوضوح أنا كمان بحبهم، عشان كدة هكون مباشر في الكلام معاكي، الحقيقة ريم حكتلي على الظروف اللي بتمري بيها حاليا ومسألة مرض مامتك وطبعا ما نسيتش تقولي انك رافضة لأي مساعدة مالية من أي حد.
انتظر منها أن تبدي أي تعليق ولكنها لم تفعل بل إن تعابير وجهها لم تتغير حتى، ففتاة أخرى ربما شعرت بالحرج في موقف كهذا أو طلت من عينيها نظرة قلة الحيلة، أما نوران تلك فكانت حقا مختلفة كما تمنى، فتلك الجسارة التي يراها في عينيها هي ما أرادها بالفعل، لذا أردف يقول مضيفا لحديثه السابق: أنا عندي حل لمشكلتك.
لم ينتظر تعليقها كما السابق بل أكمل موضحا: درس خصوصي مكثف لمدة شهر مقابل مبلغ مالي كويس تقدري تعملي بيه العملية لوالدتك.
تساءلت نوران بنظرة متشككة: وإيه نوع الدرس دة اللي هيكون المقابل المادي بتاعه مبلغ كبير كدة؟
جاسر بغموض: ماهو مش لأي طالب بردو يا أستاذة، تلميذك المرادي هيكون من نوع خاص وليه ظروف خاصة.
تدافعت الكثير من الأفكار إلى رأسها فور سماع تلك الكلمات المبهمة، فهل هو من ذوي الاحتياجات الخاصة؟ أم أنه ابن رجل سياسي مرموق؟ أم ربما يكون أحد هؤلاء الفشلة الذين يكون جل همومهم كيف يصرفون أموال آبائهم؟
وانتبهت نوران لمحدثها حين أضاف: والأهم من كل دة السرية التامة، يعني محدش غيري أنا وانتي وطبعا صاحب الشأن يعرف حاجة عن الموضوع دة.
حسنا، ربما يكون الترجيح الثاني هو الأقرب إلى الصواب، وسألت بعملية: طب ممكن أعرف هو في سنة كام؟
ابتسم جاسر بعفوية قبل أن يرد عليها: لا، هو مش في مدرسة.
وعندما رأى نظرة الحيرة التي أطلت من عينيها أضاف: بصي يا أستاذة، انتي هتدرسيله حروف اللغة العربية كلها بحيث انه يقدر يقرا ويكتب بشكل كويس خلال شهر.
حاول انتقاء كلماته بعناية في توضيح الأمر لها أكثر ولكن على العكس فما زادتها إلا حيرة وغموضا، ولكنها توصلت إلى استنتاج ربما يفسر لها الأمر جيدا، فمن الجائز أن يكون ابن أحد الأثرياء الذي قضى جزءا من طفولته في الخارج وقد غفل والداه عن تعليمه لغة بلده.
     : هه! إيه رأيك يا أستاذة نوران؟
يبدو أنه ينتظر سماع رأيها الآن، أي أن لا وقت للتفكير السليم، إما أن تقبل أو ترفض ولا خيار وسط، ولكن بحسابات بسيطة وسريعة، فإن وافقت ستضمن إجراء العملية لوالدتها أما العواقب فغير واضحة المعالم، وإن رفضت ستبقى حياتها كما هي مع الوضع في الاعتبار أن عليها التفكير في طريقة أخرى للحصول على المبلغ المطلوب، مازال جاسر ينظر إليها بترقب في حين يبدو أنها لا تزال في حيرة من أمرها لذا أخرج ورقة صغيرة من درج المكتب قدمها لها وهو يقول موضحا: ع العموم معاكي لحد بكرة تقدري تفكري براحتك، لو موافقة يبقا تيجي في العنوان دة بعد المدرسة زي النهاردة أفتكر إن الميعاد دة هيكون الأنسب ليكي، أما لو كان ردك بالرفض فتقدري تقطعي الورقة والكلام اللي تم ما بينا كأنه ما حصلش.
وبعد قليل من التردد مدت أناملها الرقيقة لتستلم منه تلك الورقة في الوقت الذي اختارته ريم لتدخل حاملة بين يديها صينية المشروبات، وبإشارة خفية من عينيه علمت بها مقصده تناولت حقيبتها سريعا لتخفي بداخلها تلك الورقة قبل أن تلاحظها شقيقته الأمر الذي جعلها تقدر مدى السرية الذي تحدث عنها بشأن تلك المهمة، وهي التي كانت تظنه يبالغ في الأمر، هي حتى لم يتسنى لها قراءة العنوان كاملا فقد توقفت عند كلمة (ڤيلا.....) ولم تتمكن من قراءة اسم صاحب ذلك المسكن الذي لم تدخل مثيله يوما، ڤيلا؟ حسنا، فيبدو أن الأمر سيكون به بعض الإثارة!
..........
أما في كافيتريا الجامعة فقد جلس مدحت برفقة نسرين ويبدو عليهما الانسجام تماما من تلك الابتسامة التي لا تغادر ثغر نسرين مستمعة لحديث مدحت المتواصل دون كلل أو ملل، إلى أن قرر التوقف أخيرا ليسألها: وانتي بقا عمرك ما سافرتي برة مصر؟
هزت نسرين رأسها بالنفي وهي تجيبه: الصراحة لا.
ثم أضافت بحماس: بس لو فيه فرصة اني أسافر فأنا نفسي أروح باريس بيقولوا انها جميلة جدا وفيها أماكن روعة.
مدحت موافقا: دة حقيقي، أجمل الأماكن وأكترها رومانسية موجودة في باريس مدينة النور، أنا روحتها مرتين، شركتنا ليها فرع هناك واحتمال أنا كمان أروح اعيش هناك بس بعد ما أتخرج طبعا.
علقت نسرين بلمعة إعجاب في عينيها: بجد يا بختك يا مدحت، قادر تعيش حياتك بالطريقة اللي انت عايزها من غير قيود، يعني تسافر وتروح وتيجي كدة من غير ما حد يقولك لا ولا كدة غلط أو عيب.
مدحت باستهجان: يا بنتي احنا اللي بنحط القيود دي لنفسنا، حياتنا بادينا احنا مش بإيد أي حد تاني.
مطت نسرين شفتيها بضيق وهي تقول معترضة: سهل إنك تقول كدة لإنك شاب، بس لو كنت بنت زيي كنت هتعرف إن دة مش بس صعب، دة مستحيل كمان، احنا بتحكمنا حاجات كتير زي العادات والتقاليد والأعراف وغيرها.
لاحت ابتسامة جانبية على شفتيه وهو يقول بغموض: طب إيه رأيك أن أنا بقا نويت أكسرلك القيود دي واحد ورا التاني، بس انتي بس سيبيلي نفسك.
سألت نسرين مطالبة بتوضيح: ازاي يعني؟
وقبل أن يجيبها مدحت، تصاعد رنين هاتفه بشكل متواصل ليخرجه من جيبه وينظر إلى شاشته فيعلق بتذمر: هو دة وقته؟
سألته نسرين: مين؟
مدحت: دة خالد، شكله مروح، أصلي مش جايب عربيتي وهو هيوصلني بعربيته.
ثم أضاف معتذرا: معلش بقا، كان نفسي أقعد معاكي وقت أطول من كدة.
بينما أسرعت نسرين تقول: لا ولا يهمك، أنا كمان لازم أروح لأني اتأخرت، دة غير اني المفروض أعدي على سهر الأول.
اقترح مدحت فجأة: طب ما تيجي نوصلك معانا.
بينما بدت نسرين محرجة وهي ترفض عرضه السخي على مضض: لا معلش، مش هينفع، أنا هاخد مواصلات.
ولكن بدا الإصرار في عينيه وهو يكرر عرضه: يا بنتي وليه تتبهدلي في المواصلات واحنا موجودين؟ بلاش الحساسيات دي بقا، ونقدر نعتبر إن دة اول قيد لازم نتخلص منه، ولا انتي لسة مش واثقة فيا؟
سارعت نسرين تجيب بالنفي: لا طبعا، المسألة مش كدة خالص، بس أخاف لو حد يشوفنا مع بعض ممكن يعملي مشكلة.
وبالطبع فكان لديه الحل السريع لمشكلتها، ليهتف بابتسامة مطمئنة: يا ستي لو على كدة يعني فأنا هبقى أخلي خالد ينزلك بعيد عن منطقتك.
ولكنها بدت محرجة أكثر وهي تقول: ماهو أصل أنا كمان معرفش صاحبك خالد دة، تفتكر ممكن يقول عليا إيه وأنا بركب معاكم لوحدي؟
اتسعت ابتسامته بمرح وهو يقول: ولا أي حاجة طبعا، يا بنتي خالد دة عقلية متفتحة جدا وهتشوفي بنفسك ياللا بقى قبل ما يسيبنا ويمشي.
ولم يعطها فرصة لحرية القبول أو الرفض بل سحبها من يدها وذهب برفقتها دون ممانعة منها أو احتجاج لتبدأ بذلك سلسلة التنازلات.
..........

حب بالحروف الأبجديةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن