عادت هي ووالدتها إلى المنزل مرهقة من كثرة التفكير وقلة الحيلة، استأذنت والدتها لتدخل إلى حجرة نومها وتقوم بتبديل ثيابها، ولكنها مجرد حجة لتخلو بنفسها قليلا وتظهر من الضعف ما لا تتمكن من إظهاره أمام أحد حتى أقرب الناس إليها فلقد اعتادت أن تكون رجل البيت الصامد الذي لا تهزه أية معضلة أو محنة وأن يكون سندا لمن هم تحت رعايته، ولكنها فوجئت بشقيقتها الصغرى تستلقي على فراشها تنظر إلى السقف بشرود ووجوم، سألتها مبدية دهشتها: سهر! انتي جيتي امتى؟
بينما امتنعت سهر عن الرد وظبت على نفس وضعيتها تحدق في السقف مما أقلق شقيقتها التي كان يكفيها ما تعانيه حتى الآن، ولكنها كعدها دائما لا تكل ولا تشتكي، فاقتربت من شقيقتها بخطوات سريعة ثم تحسست جبهتها بلهفة وهي تسألها: سهر! مالك يا حبيبتي؟ انتي كويسة؟
وكأن سؤالها البسيط ذلك قد استدعى دموع الأخرى التي أخذت تتساقط على خديها في صمت مما ضاعف من قلق نوران، فهتفت وقد بلغ منها الحنق مبلغه: مالك يا سهر؟ ما تتكلمي؟ فيه حاجة حصلت في الجامعة؟
بدت وكأنها تجيد صياغة أسئلتها حيث رفعت سهر جزعها لترتمي في حضن شقيقتها وتجهش بالبكاء وهي تقول: أنا مش هروح الجامعة تاني.
ثم أهذت تكمل وصلة البكاء التي ابتدأتها في حين ان تصريحها كما توقعت قد اصاب شقيقتها الكبرى بالصدمة ولكنها لم تبد ذلك ولم تناقش شقيقتها في أسباب ذلك القرار المفاجئ، بل إنها ربتت على ظهرها بحنان لتقول لها بهدوء واتزان: اهدي بس كدة وقومي اغسلي وشك، وتعالي نتغدى سوا عشان ماما مستنيانا واحنا هنموت من الجوع، وبعدين نتكلم وكل اللي انتي عاوزاه هنعمله.
كانت تعلم المدخل لقلب وعقل شقيقتها التي هدأت قليلا بعد سماع كلماتها وكأن بها البلسم لجرحها فأومأت برأسها في استكانة ثم تحركت ناحية الحمام لتترك شقيقتها وقد زادت مشاكلة مشكلة أخرى، فلا يبدو أن القدر سيدعها وشأنها أبدا لتنعم بيوم واحد من السلام النفسي.
.........
كان يوم عمل مرهقا بحق، بدأ بمحاولته إقناع ذلك صاحب العقل المتيبس بضرورة تعلم القراءة والكتابة، لا ينكر انه قد استخدم اسلوب المراوغة في ذلك الأمر حيث لم يكونا في حاجة ماسة له كما كذب على صديقه، فكان يمكنهما تخطي هذا الأمر بطرق شتى، ولكنه سبق وعرض على أدهم أمر ضرورة تعلمه القراءة والكتابة على أقل تقدير وقد لاقى رفضا قاطعا فانتهز تلك الفرصة لفتح الحديث مجددا في هذا الأمر، ففي الحقيقة كون أدهم أميا يعيق عملهما في بعض الأحيان رغم الحيل التي يستخدمها هذا الأخير كي لا يكتشف أمره، وبما أنه قد نجح في اجتياز المرحلة الصعبة ألا وهي موافقة ذلك الأدهم على تلقيه دروسا سرية لتعلم القراءة والكتابة، فتأتي الخطوة الثانية التي تليها في الأهمية وهي اختيار الشخص المناسب للقيام بتلك المهمة فيجب أن يكون ذا كفاءة عالية وجدير بالثقة في لحفاظ على ذلك السر، والأهم أن يتمتع بشخصية صبورة ومثابرة ليتحمل التقلبات المزاجية لصديقه وكذلك شخصيته التي يصعب ارضاؤها.
وجد شقيقته وأباه يجلسان سويا حول طاولة الطعام، يتناولان وجبة العشاء، فألقى عليهما التحية ثم سحب مقعده بجانب شقيقته ليجلس عليه ويبدأ في تناول الطعام برفقتهما، ساد الصمت لبعض اللحظات حتى علق الأب وهو ينظر إلى ابنته التي كانت تعبث في الطبق أمامها بشرود دون أن تتناول من طعامها شيئا: مالك يا ريم؟ لسة موضوع صاحبتك دة شاغلك؟
ريم بتأثر واضح: أصلها صعبانة عليا اوي يا بابا، يا عيني مش عارفة تلاقيها منين ولا منين؟
وبالطبع لقد غلبه فضوله ليتساءل: هو فيه إيه؟ وصاحبتك مين اللي بتتكلموا عنها؟
ردت ريم بملامح حزينة: نوران يا جاسر، تصور إن الدكتور قال ان مامتها محتاجة لعملية ضروري ممكن تتكلف عشرين الف جنيه او أكتر كمان، وطبعا هي مش معاها ولا مليم من المبلغ دة.
قال جاسر ببساطة: طب وفين المشكلة؟ لو كانت صاحبتك صعبانة عليكي اوي كدة سلفيها المبلغ، وأنا ممكن أساعدك فيه لو ما كنش معاكي المبلغ كامل.
قالت ريم بضيق: ياريت، بس للأسف أنا متأكدة انها مش هتوافق، أنا عارفاها كويس، نفسها عزيزة أوي، وبتحب دايما تعتمد على نفسها وتحل مشاكلها لوحدها، آه لو شفتها يا جاسر بعد ما خرجنا من عند الدكتور، كانت أكيد هتصعب عليك انت كمان.
: طب بقولك ايه؟ أنا عاوز أقابلها ضروري بكرة.
هتف بها جاسر فجأة وسط دهشة والده وشقيقته التي سألته بفضول: تقابلها! طب ليه؟
ثم أشارت إليه محذرة: أوعى تكون عاوز تعرض عليها مساعدة مادية، أنا زي ما قولتلك هي بترفض تماما النوع دة من المساعدات.
بينما قال شقيقها بابتسامة ثقة: لا اطمني، أنا عندي الحل لمشكلة صاحبتك، تقدري تقولي إنها هتكون مسألة تبادل منفعة.
سألت ريم بعدم فهم: ازاي يعني؟ مش فاهمة.
جاسر بغموض: مش لازم تفهمي، بس لو عاوزة تساعدي صاحبتك اعملي زي ما بقولك.
قال كلماته الحازمة تلك ثم تبادل نظرات متفاهمة مع والده، فلطالما تفاهما بالنظرات، شعر برفض والده ولكن لم يكن امامه خيار آخر، فلقد طرأت تلك الفكرة المجنونة في عقله فجأة، فربما تكون نوران تلك هي الخيار الأنسب في الوقت الحالي، فإنها تعمل في مجال تخصصها كمدرسة للغة العربية باحدى المدارس الخاصة إلى جانب حصولها على درجة الماجيستير وعلى حد علمه فهي تعمل الآن على تحضير رسالة الدكتوراه، أي انها ذو كفاءة عالية فيما يتعلق بهذا المجال، كما أنه استطاع ان يكون فكرة جيدة عنها من خلال لقاءاتهما المعدودة في السابق، فهي فتاة جادة، ملتزمة ويمكنه الاعتماد عليها في حفظ ذلك السر الثمين، وأخيرا وليس آخرا فحاجتها الماسة للمال ستجبرها على المثابرة امام شخصية صديقه الصعبة والعنيدة، إذن فلينطلق سريعا في تنفيذ خطته وأهم ما فيها هو كيفية إقناع الجميلة بالبقاء بالقرب من الوحش والعمل على ترويضه قبل تعليمه.
...........
لقد اعتاد أن يمر على غرفة الصغير قبل أن يخلد إلى النوم ليطمئن على أحواله، و الخادم قد أكد له أنه منذ عودته من الخارج لم يخرج من غرفته، حتى أنه لم يطلب تحضير الطعام مما أثار قلقه، طرق الباب ثم فتحه دون أن ينتظر لتلقي اي رد من الداخل ليجد خالد يجلس على فراشه يتصفح جهاز الحاسوب الخاص به بشرود حيث كانت عيناه تنظران في اتجاه آخر إلى نقطة فارغة، فاقترب منه أدهم وهو يحيطه بنظرات متفحصة مهتمة: خالد! انت كويس؟
انتبه خالد أخيرا لوجوده ورد بإيماءة خفيفة من رأسه مما زاد من قلق الأدهم فلم تكن من عادة خالد أن يبق صامتا هكذا فلطالما كان سببا أساسيا في إصابته بالصداع لساعات طويلة خاصة في صغره، لذا اقترب منه أكثر وجلس بجواره على حافة الفراش ليقول له: محمود قالي انك ما كلتش حاجة من ساعة ما جيت من برة، وانك كمان رجعت بدري مع ان دي مش من عوايدك، هو فيه حاجة حصلت في الكلية؟ لو حد ضايقك قولي وأنا أتصرف.
نعم، فرغم رفضه للكثير من تصرفاته إلا أنه لا يسمح لأحد أن يؤذيه او يضايقه فهو كما تعود أن يطلق عليه (ابني اللي مخلفتوش)، بينما قال خالد بنبرة وقورة مناقضة لشخصيته العابثة: مفيش حاجة يا أدهم، أنا بس متضايق من نفسي شوية، أصل حصل موقف النهاردة موقف كدة في الجامعة...
ثم صمت قليلا ينظر ناحية أدهم بتوجس ربما في بعض الأوقات يخشى رد فعله كما الآن، إلى أن حسم أمره أخيرا ليقول: شوف أنا هقولك، بس قبل أي حاجة لازم تعرف اني معترف اني كنت غلطان وندمان ع اللي حصل ولو فيه فرصة أقدر أصلح بيه الموقف الزبالة دة فأنا بتمنى بجد ان دة يحصل.
ضيق أدهم عينيه ليسأله بترقب: إيه الموضوع؟
.........
: انتي عبيطة!
قالتها نوران لشقيقتها ما إن قصت عليها ما حدث في الجامعة وسبب قرارها المفاجئ لترك كليتها، فصاحت سهر باستنكار: أنا عبيطة يا نور؟ يعني كنت عاوزاني أسكتله؟ دة أنا كان الود ودي أكون لابسة ساعتها أبو وردة عشان أنزله على دماغه يمكن يعدله طريقة تفكيره شوية.
بينما قالت نوران مصححة: مش قصدي كدة، بالعكس انتي ردك وإن كان مبالغ فيه شوية بس صح جدا، لان البني آدم اللي زي دة لو كنتي سكتيله كان ممكن يتمادى أكتر، بس الغلط في قرارك انك تسيبي الكلية وتضيعي مستقبلك وتتخلى عن حلم عمرك عشان موقف عارض زي دة.
اكتسى وجه سهر بالحزن وهي تقول مدافعة عن نفسها: مش عارفة هوري وشي ازاي لزمايلي تاني بعد اللي حصل ،مش يمكن يصدقوا كلام الشخص دة عني فعلا؟
قالت نوران موافقة: وارد جدا طبعا، بس الأهم من دة، ان انتي نفسك تكوني واثقة ومتأكدة انك ما عملتيش حاجة غلط، الناس كدة كدة بتتكلم وبتجيب في سيرة بعض، وسواء مشيتي صح أو غلط مش هتسلمي من لسانهم، عشان كدة مش لازم كلامهم دة يخليكي توقفي حياتك وتضيعي مستقبلك، طالما انتي متأكدة انك صح يبقى ما يهمكيش كلام ولا نظرات أي حد ولازم دايما تبقى راسك مرفوعة، أخلاقك وتفوقك هما اللي ممكن يوقفوا كل واحد عند حده فبلاش تخسريهم.
بدا على سهر التفكير، فكلام شقيقتها مقنع إلى حد كبير ولكن هناك بداخلها ما يدعوها للتمسك بموقفها حيث قالت معترضة: بس أنا بجد محبطة أوي، دة كان أول يوم ليا في الجامعة وحصل كدة أنا فعلا مش عاوزة أرجع تاني الكلية ه الأقل دلوقت.
لم ترغب نوران في الضغط على شقيقتها أكثر لذا قالت موافقة: مفيش مشكلة، خدي وقتك لحد ما تهدي وتستعيدي توازنك، بس ياريت ما تطوليش وخلي بالك انتي الوحيدة اللي هتكوني خسرانة لو نفذتي اللي في دماغك وهتسمحي للشاب دة انه يحس بالتفوق والانتصار عليكي.
كانت تلك هي ورقتها الأخيرة لإقناع شقيقتها، فلقد خاطبت روح التحدي بداخلها وما كانت سهر لترضى بخسارة هذا التحدي لأي سبب!
.........
: عاوز رأيي ولا نصيحتي؟
قالها أدهم بعد ان أطلعه خالد على ما حدث وبما أنهما قد اعتادا في المواقف الجادة المشابهة أن يتحدثا فيها كصديقين، فأجابه خالد بعفويته: لا يا عم، رأيك أنا أكيد عارفة غير اني قولتلك اني بعترف بغلطتي.
أدهم برزانة: تمام، يبقى نصيحتي ليك يا بطل انك تنسى الموضوع دة خالص وتشيله من دماغك كإنه ما حصلش.
قال خالد باستهجان: إيه يا عم اللي انت بتقوله؟ هو أنا بقولك تعالى نخطبها؟ كل الحكاية بس ان ضميري بأنبني حبتين ع اللي عملته معاها.
أدهم بعدم رضا: ماهي بتبتدي كدة في الأول وبعدين تلاقي نفسك خسرت كل حاجة.
بدت نبرته حزينة وبائسة وهو يتفوه بجملته الأخيرة وقد شعر خالد بذلك، لذا لم يحاول أن يضغط على جراحه أكثر، بل قال ببقايا ضمير بداخله: يعني من رأيك إني ما اروحش أعتذرلها؟
جاءت إجابته بالنفي القاطع: ولا تفكر حتى في الموضوع تاني، وزي ما قولتلك اعتبره كإنه ما حصلش، ومين عارف، مش يمكن البنت دي تكون بتلعب بيك، وتكون أصلا عارفة انت مين وحبت تعمل نمرة عليك عشان تلفت نظرك ليها؟
فكر خالد في الأمر لحظات، فبدت تلك النظرية التآمرية التي افترضها أدهم مقبولة إلى حد ما ولكن لا يزال جزء بداخله يرفض تصديقها، فهو من المستحيل أن ينسى تلك النظرة الأخيرة التي رمقته بها، لا يمكن أن تكون كاذبة بارعة لتلك الدرجة، ولكن خبرة أدهم بالنساء يُشهد لها حقا، فبدت الحيرة في نبرة صوته وهو يسأل بصيغة استنكارية: تفتكر؟!
..........
أنت تقرأ
حب بالحروف الأبجدية
Dragosteالأمي في اللغة هو من لا يعرف القراءة والكتابة، فماذا نطلق على من يجهل أبجديات الحب؟ أدهم الرفاعي _رجل الأعمال الشهير_ ليس فقط جاهلا بأبجديات اللغة ولكنه ايضا لا يفقه شيئا عن الحب لتأتي نوران تلك الفتاة التي وقع عليها الاختيار لتكون مسئولة عن تعليمه...