_" سنقوم بقرعة لاختيار المتطوّع للعمل في دار الأيتام ليوم الأحد القادم "
يصدحُ صوت المعلمة في غرفة الصف العتيقة .
و يطير الطلاب حماسًا ، تتقطع الواحد منهم في سبيل أن يكون المتطوع المذكور ، طبعًا : ليس لأجل حبّ التطوع ، بل لاسباب اخرى : كالهروب من الحصص البغيضة على سبيل المثال لا الحصر :)
_" الرقم سبعة عشر .. أيكم يحمل هذا العدد ! "
تنهض فتاة في غاية الجمال متجاهلةً صياح مقعدها لدى تحريكه :
_" انا أحمله "
تفيض الهمزات و اللمزات لتغمر غرفة الصف عندها :
_"القبيحة !!"
_"هذا لا يناسبها أبدا"
"أشك في كونها ستبقي على حيوات الأولاد المساكين"
_"معلمة ، فلتختاري رَقما آخر من فضلك"
_"سيخاف الأولاد من قبحها لدى رؤيتها"
_"هذا مقرف"
ولا يقطع وابل الشتائم سوى صوت المعلمة الجهوري :
_" صمتًا أيها الحمقى ، ياللألفاظ البذيئة ! هالة ستذهب رغم أنوفكم ، فاخرسوا ، و لنبدأ درسنا "
.. هيَ كانت فاتنة الجمال ، غير أن أحدهم لم يلاحظ ذلك .. فلديها من الأخلاق ما يكاد يصل للحضيض من فرط قبحه ،
و تصرفاتها الهوجاء لا تزيدها إلا قبحًا في عيون الآخرين ..
لم تكن تبتسم ، أو تهمّ بمساعدة أحدهم أبدًا ، هذا إن لم نذكر احتقارها لمن حولها ..
___________
_" هالة ، عزيزتي ، ستذهبين الآن و سترافقكِ المعلمة رنا ، اعتنِ بهم جيّدا ، أعلم بكم هو قلبك واسع ، و تذكّري بأنهم لا يملكون أما ولا أبا ، أشعريهم بالدفء .. موافقة ؟ "
تلزم المعنيّة الصمت ، ثم تتجه لوجهتها ببرود .
ما لم يعلمه أحد ، أن رغبتها في التطوع في دار الأيتام لم تأتي من رغبة الهروب من الحصص ، لأن الأيتام هم وترها الحسّاس ، هي أحدهم في الواقع ، و لذا لا عجب أنها تود مساعدتهم بقدر ما تحتوي الأرض من حبّ ..
تقفُ أمامَ الباب ، تستعير نفسًا و تدلف ..
و أول ما يقابلها : صغيرٌ يطغى على وجنتيه الإحمرار ، يركض باتجاهها و يقف خلفها ، كمن يحتمي، و يهمس همسًا أخرقًا :
_" أختي ، احمِني منه "
تلتفت للأمام ، فترى صبيّا آخر يشق طريقه بسرعة ، كان الصغيران يلعبان المطاردة .. تلفتُ ثالثةً صوب الطفل الأول ، و تبتسم مستعيرةً جمالَ الكون .. ثم تحمل الطفل الأولَ على كتفها بحركةٍ سريعة ، و تجري .
يندهش الطفلان من سرعة رد ّفعلها ، يسعدانِ كثيرًا .. و يضحك الأوّل فيما يستمر الثّاني بالركضِ وراءَهما ضاحكًا هو الآخر ..
ينتهون بعد لهاثهم تعبًا .. و يتوقفون ، تُجلِس الطفلان عن يمينها و شمالها ، و تستمع لحكاياتهما التافهة ، و تراها جميلة ، فتبتسم . و لا تزال تستمع ..
_" أختي ، أنا أحبّك "
_ " أختي ، أحبّك أيضا "
ينشرح صدرها بعد طول انغلاق :
_" لمَ ؟ الجميع يكرهني "
_" إنّهم لا يملكون عقولًا .. "
_" أجل ، فأنتِ جميلة ، و طيبةٌ للغاية "
يستمرّ الملاكان الأبيضان بتعديد محاسنها على أصابعهما الضئيلة بشغف .
يبتسمان ، ثم يفزعان حالما يريان دموعها .. علّماها للتو أنها جميلة ، و بأنها تملك من الطيبة مقدار ما ، عاهدتهما ، و نفسها معهما : أن تكون أكثر جمالا و طيبة عندما تلقاهما مرة ثانية ، احتَضنهما بقوةٍ ، و بكَت..
_______________________
جدّةٌ تمشي بصعوبة ، و تحملُ من المشتريات الكثير ، تشقُّ طريقها بصعوبةٍ بالغة ، تُفلت أمتعتها ، و تُقيم ظهرها ثمّ تستعيدُ أنفاسها الهاربة .
و عندما تهمّ ثانيةً بحمل أمتعتها و المضيّ :
_ "جدّتي !!"
_ "حقا ! انها أنتِ ثانيةً ، علمتُ بأنّكِ ستأتين .."
_" جدتي ! دعيكِ منّي ، لكم من المرات سأخبركِ أن لا تحملِ أمتعةً بهذا المقدار لوحدك ، دعيني أساعدكِ .."
تبتسمُ الجدّة ، و تغمرها السعادة .
توصلُها إلى منزلها مع الأغراضِ ، ثمّ تودّعها باستعجالٍ دافئ .
_ "لمَ أنتِ بهذه العجلة دائمًا ؟ رغم كوني لا أعرفُ اسمكِ حتّى ، إلا أنّكِ لا تبدينَ أبدا من النوع العجول ؟"
تبتسمُ الفتاة بكامل جمالها ، و تهمس :
_" إنّه سرّ .. "
و تغادر بعدها ملوّحة ..
____________________
[في العالم القاسي : هناك دائما من يحتاج لمساعدتك ، فاركض تجاهَه بأقصى ما استطعت]
[في العالم القاسي : كنْ عالَمًا دافئ] ~
انتَهى .
*[الثامنُ و العِشرونَ مِن ديسمبرَ البَارد .2016 ]*